.

.

جديد

‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص الكاتبة خولة القزويني. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص الكاتبة خولة القزويني. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 28 يونيو 2010

( كُـرة الثلـج )

الأم المتثاقلة من عبء البنات الثمانية، فمطالبهن كثيرة ومشاكلهن معقّدة، لم تشأ أن تفكر إلا بزواجهن دون تمحيص الخاطب لأي واحدة منهن إلا في الحد الأدنى من المزايا، لكن (زهرة) تختلف عن باقي بناتها فبالرغم من شح جمالها إلا أنها أرقهن شمائلاً، ارتضت بـ (سلطان) زوجاً نزولاً عند رغبة أمّها، فهو يعمل في سلك الشرطة ومن عائلة طيبة وهكذا وجدته الأم أهلاً لزهرة.
خلعت (زهرة) ثوب المدرسة وارتدت طرحة العروس، كانت أمّها تخطط بإتقان كيما تلقي عنها همهن لتتوحد بزوجها الذي غمرها بالنعيم والدلال وظل يغنجها كعروس طروب، ترفض كهولتها المبكرة وتستثير داخلها روح شباب قد أدبر.
زوجت (زهرة) متناسية خاصيتها وتميزها في المدرسة، وقعت في قبضة زوج جاهل ظل يعيق تفوقها، المعركة اليومية مع كتبها المدرسية حينما تفترشها على طاولة الصالة لتعدّ جدولها المدرسي كل مساء، وهي لا تدري هل يمازحها حينما يخطف الكتب ويرميها أرضاً ثم يعيدها ثانية إلى الحقيبة وهي تتوسل إليه أن يكف عن إزعاجها، وأحياناً يخبئ الكتاب وراء ظهره و (زهرة) تحاول استرداده لكنه يقهقه ضاحكاً حتى تجهش في البكاء (غداً امتحاني وأنت تشاغلني عن المذاكرة) يرمي الكتاب أرضاً وينصرف خارج الدار.
مازالت هذه الطفلة محكومة برجل لم تصل معه إلى حالة من الالتحام أو شيء من الانسجام، تلاطفه كما الأخ لم تستوعب بعد حقيقة الدور الذي تعيشه فبنت الرابعة عشر تتفاعل بسذاجة وتتجاوب بآلية حيوان أليف، يكبرها بثمان سنوات لكنه أعجز من أن ينتشلها من حيرتها ومن هذه الحياة المرتبكة التي تغوص فيها بذهن شارد، عالمها المدرسي يغمرها بالامتلاء النفسي بينما هو يتعذب بوحدته الذكورية التي لم تنصهر بأليف يؤنسه، يلعن أمّاً قدّمت له بضاعة مغشوشة، أنثى باردة، وجسد غض لم يتفجر فيه نبع الإحساس النسوي، يتصل بأمّها ليفجر كبته لكنها تهرب من بلد إلى آخر تغرف من دنياها ما شاءت لها لفرص.
تحدث لـ (زهرة) أشياء لم تستوعبها بعد، الخادمة تشتكي صداعاً مزمناً وفي أوقات متقاربة وتطلب مراجعة المستوصف، يلبي سلطان الدعوة، إنهما يتهامسان ويختلسان النظر إلى بعضهما ويتواريان عن نظرها، غيابها في حجرة السطح بأعذار مفتعلة، (إنها أوهام لا تحمل أي معنى سلبي، فمن يترك نفسه لخادمة قذرة!)، وينضج صباها على مشارف الجامعة وقد دخلتها بامتياز.
(كفاكِ عند هذا الحد).
صوته يتهدج رعباً من غول قادم.
(لا أرجوك، إنه مستقبلي لن أسمح لأحد أن يقف في طريقي).
(وأنا زوجك ومن حقي أن أفرض هذا القرار).
(أنا أخطط لأدرس في كلية الحقوق وحرام أن تضيع مني هذه الفرصة).
وتبدأ معركتها الجديدة وإصرارها أن تحفر في الصخر قدرها وتشق دربها مكافحة، غربلت زوجها في كيانها واكتشفت عن وعي أنه مخلوق هش رهين يومياته البدائية، مترع بالغرائز الحسيّة، لم يعرف كيف يشعل فتيلها العاطفي لتدفئ أنوثتها المتفتحة في عطش، تنظر حولها عالماً مختلفاً من الرجال الأشداء بعقول مبهرة وحضور مهيب فتبهت فيه الرجولة ويكشف عن خبيئة طفولية بنزق مراهق وهو يتمايل في مشيته أمام شقيقاته مرتدياً ثوباً نسوياً ليمثل مشهداً لإحدى النساء اللاتي أدهشنه في الشارع، أو يقفز بخفة قط مشاكس، تغرق في الإحباط ويتلاشى إحساسها به فقد استهجنته واستقبحت كل أفعاله.
(تسريحتك تسريحة مراهق!).
قالت ممتعضة.
(بالعكس فأنا جذَّاب جداً حتى أن طالبات الثانوية يتهافتن عليّ كلما مررت أمام المدرسة).
استاءت:
(أهذا كل ما يهمك!؟ فأنت زوج وأب لطفلة وينبغي أن تكون أكثر وقاراً).
الهوة النفسية بينهما تكبر حتى باتت ملامسته أشبه بلدغة عقرب، ما شعرت بفحولته نهراً يغمرها بالذوبان وتغرق في إحساسه حتى تتلاشى، وجه مبهم الملامح ترغب في استبقاء لون محدد يوجه لها مساراً ثابتاً وبالحد الأدنى من الواقعية، الفكاهة العبثية تثير غيظها، انقلاباته المزاجية تطفئ توقها، يقف هذا الصباح أمام المرآة ويدهن وجهه بكريم مرطب ويشمه:
(رائحته زكية، اشتري لي واحداً مثله).
(لكنه للنساء).
(لا ضير في ذلك).
كظمت غيظها وفرت من الحجرة نافرة.
تتردد صديقتها (إلهام) على بيتها ليتباحثان في المحاضرات ويتناولان العشاء، كان (سلطان) يلزم البيت ويخاطبهما في حشرية مستعرضاً رجولته في افتعال ممجوج، استوعبت صديقتها رسالته ومهدت له جسراً برغم الصمت فما حضرت في المرات القادمة إلا ومعها دعوة غواية تفضحها عيونها الفاجرة، فلتذل أنف (زهرة) المغرورة بعلمها، فلو كانت ذكية لعرفت كيف تحتفظ بهذا المجنون.
وطعنة نجلاء أن تخون صديقتها الثقة وتراود زوجها خلسة، الخادمة المغدور بها أفشت السر:
(سيدتي أنتِ مسكينة تثقين بهذه الصديقة وهي تخونك مع زوجك!).
(وكيف عرفتِ؟).
(سمعته يتحدث إليها بالهاتف في وقت غيابك عن البيت أو في الحمام وأعتقد أنهما يلتقيان سراً).
في ذهن شارد رددت:
(أيعقل هذا؟!).
(هو من كان يطاردني وأنا أصده.. صدقيني).
بررت (إلهام) موقفها.
(لكنكِ خنتِ الثقة).
(زوجك رجل مسعور انتبهي له).
صارحته (زهرة) بدوافع مختلفة آخرها الحب والغيرة.
(نعم أخونك مع إلهام وغيرها ومع أتفه النساء لأنكِ لا تستحقين إخلاصي).
(إنك لا تعرف كيف تبرر جرائمك).
(أنا متزوج من امرأة كالثلج، صمّاء كالحجر، ناضبة كالصحراء).
سخرت:
(دعني أحبك، مهّد لي سبل الغواية كي تجتذبني إليك، فمنذ أن تزوجتك وأنا ناقصة لم تشبع فيّ إحساسي كأنثى، لم تحرّك في قلبي وتر اللهفة، انطباعي عنك باهتاً، ضائعاً).
صفعها وشدها من شعرها ورماها على الأرض:
(أنتِ الناقصة، تبررين فشلك وعجزك وتهربين إلى الدراسة والكتب، لم تفهمي طبيعتي كرجل).
همت لتقف بعد أن اتكأت على المنضدة وصرخت في غضب:
(لماذا لا تطور نفسك وتنمي شخصيتك، كم من المرات شجعتك أن تكمل تعليمك؟ فقد كبرت أنا وبقيت في محلك ولهذا صرت تغار مني ومن تفوقي وعلمي).
زمجر بها في حدة:
(هذه شخصيتي وهذا أنا ولا أسمح لكِ بفرض توصياتك عليّ أو إصدار قرارات سخيفة، إن كان يعجبك الحال أهلاً وسهلاً، وإلا فاخرجي من بيتي).
تكبر الفجوة وتدخل (زهرة) في شرنقتها كئيبة، حزينة، فقد تطاول عليها في مرات عدة ضرباً وركلاً وطردها ذات ليل شتوي من بيتها وألقاها بثياب النوم في الشارع، فلا يمكن أن تحطم السد المنيع الذي تكوّم من رواسب السنين، بكت حسرتها، حزنها، أساها، وحدتها المضنية، اتصلت بأبيها فجاءها منقذاً وآواها ليومين ثقيلين تجرعت فيهما مرارة الإهمال والاستنكار فأمها تنهرها بقسوة:
(لزوجك الحق فأنتِ عنيدة، متكبرة بشهادتك، فما نفع هذا العلم وقد حطم زواجك).
(الزوجة لا مكان لها إلا في بيت زوجها).
هكذا تلقيها أمها في أحضان زوج عربيد دون محاولة لرأب الصدع واستكشاف نقاط الخلاف.
جاء سلطان ليصطحبها إلى البيت.
(ومشاعري وإحساسي)). هتفت بصوت مذبوح.
(بيتي يتعذر لكِ) حسمت أمها الموقف أمام سلبية الأب.
وتساق كما الشاة إلى بيت الزوجية حيث جلادها بالانتظار، فلم تبرئ نفسها من الذنب فقد كانت تفكر ملياً في قضيتها وتحاول إصلاح الخلل في ذاتها في ظنها أنها مهملة لاحتياجات زوجها وحاولت أن تنسف هذا الجدار بكل ما أوتيت من قدرة وطاقة، فإنجابها لابنتها الثانية كان حافزاً لتوطيد العلاقة وإصلاحها بيد أنه ينحدر في بهيمية تكشف أبشع طباعه وأرذل خصاله، إذ أخذ يتنصل من مسؤولياته كأب ويمسك عن الإنفاق، يحاول محاصرتها بخندق من نار حتى تنهار، بيد أنها قوية في الشدائد تصارع الأمواج المتلاطمة بصلابة وصبر، رعت البنتين وواظبت على الدراسة حتى تخرجت وتوظفت بينما هو في غيه وعبثه يرتع ويلعب، اتخذ من لهو الدنيا هدفاً لحياته فنفرت منه نفوراً شديداً جعلها تتقيأ كلما قاربها وتكابد كما لو كانت في عملية استشهاد فكل خلية في جسدها تنكمش وكل ذرة في روحها تجفل فقد لفظته لتماديه في فجوره واستخفافه بالمسؤولية، وكان عليها أن تحمي بيتها من شره فهو ما ارتدع عن اقتراف الفاحشة داخل بيتها، هوت نفسها المرهفة في قاع سحيق من الاضطراب والقلق ونهشتها الأحزان حتى ذوت، قد بدد صبرها استهتاره الذي فاق الاحتمال، عاودتها آلام أشبه بوخز في صدرها واختناق ظنت أنه بوادر حتفها فترددت على أطباء الأمراض النفسية تشتكي اضطراب نَفَسها ومرضها الذي نهش أوصالها وتحاول استبقاء حالة الطمأنة من روشتة كل طبيب عاودته، انحلت أواصر الثقة في أي إنسان، خسرت كل شيء، وفقدت كل الناس، اللهم إلا بنتيها كافحت لتحافظ عليهما وتصونهما من غدر الزمن.
فكرت أن تشق لها وسط هذا الظلام نفق نور يخرجها من هذا الضياع، قررت أن تحضّر الماجستير وهي ملازمة بيتها على أن تسافر فقط لإجراء الامتحانات، تركها (سلطان) مهمشة في حياته وألقى على كاهلها عبء الأسرة كاملاً، فاشتدت الكآبة من جديد وكان المخرج الوحيد لأزمتها (الطلاق) فوجودها معه تحت سقف واحد سيقودها إلى الجنون، بان عليها الذبول فلا من روح تشاطرها حزنها وتقتسم معها الهم.
(طلقني فالحياة معك باتت مستحيلة).
(أطلقك كي تذهبين إلى غيري؟!).
(لم أعد أطيقك، صرت أقرف منك، دعني أربي البنتين في ظروف لائقة نفسياً، فالمناخ هنا ملوث، إنك لا تخشى الله ولا ترعى الذمة والضمير، الخادمة سافرت وهي حامل قد راودتها حتى نلت منها وتتهم سائق جارنا، لا أدري كيف تهون عليك كل هذه الجرائم، أريد أن أنقذ نفسي منك لأنك حطمت كل معنى جميل في حياتي).
(لن أطلقك سأذرك معلّقة).
(أتنتقم مني؟).
(افهمي الأمر كما شئتِ).
وتستعين (زهرة) بـ (علماء الدين) لتذليل عقبة طلاقها فمنهم من أصمّ السمع ونصحها بالصبر والتحمل، ومنهم من تجاهل رغبتها وهمّش قضيتها، ثارت ثائرتها فصرخت:
(كيف تطلبون من الميت الصبر، إنه قتلني، حطمني، أدخلني في أزمات نفسية مدمّرة).
وأطرقت أبواب المحاكم ورفعت قضية طلاق بالضرر لكنه تجاهل الأحكام وأعرض عن حضور الجلسات وماطل في النفقة حتى اضطرت إلى مقايضته بمبلغ كبير من المال بعد أن تنازلت له عن حقوقها وابنتيها لينسلخ من حياتها للأبد.
رجعت إلى أهلها بلا زوج وأبناء، استأجرت غرفة صغيرة في الطابق العلوي وقضت شهوراً صعبة تبكي فقد البنتين، تبكي ظلمها، أساها، قسوة الأهل، وجريرة الزوج.
وفي أجواء مشحونة عاشت وسط عيون تتهمها في اليوم ألف مرة فقد ازدرتها أمّها وحرضّت أباها كي يحاسبها في رواحها وغدوها ويزعزع إيمانها بنفسها، خططت بصمت كي تخرج من هذا الجحيم الذي احترقت بسعيره ولظاه، أعدت العدة لتسافر إلى باريس تحضّر الدكتوراه في القانون، جهّزت أوراقها ووثائقها.
(آسفة لم أعد أستطع البقاء فإن أيامي معكم مريرة وساعاتي شقاء).
ودعتهم بقلب كسير عند باب البيت وحملت حقيبتها ذاهبة إلى المطار.
فتحت نافذة (سيارة الأجرة) واستنشقت عبير الربيع لأول مرة وعيناها ترنوان إلى المستقبل بذبالة أمل،فقد حطمت أغلال الزمن وانطلقت إلى الهدف بعزم وإصرار.

تابع القراءة

( امرأة عاطفية جداً )


كان ينقصني شيئاً رغم كل مظاهر الحياة الباذخة، فالوحدة خانقة رغم ضجيج الكائنات حولي، لأنك تشعر أن هناك شيء في داخلك فارغاً وتحاول استجلاب الحياة فيه عبر دفق إحساساتك المصطنعة، إذ يتسلل نوع من المرارة تنزفه في آنية فاخرة رغم قرب الآخر منك تحسبه شريك الفرحة والدمعة.
منذ اليوم الأول لزواجنا وأنا أجتهد كي أبلغ حالة من التناغم معه وفهم حقيقة لا تُفسر، عجز المنطق عن توصيف حالتي الزواجية وكأنها ذات وجهين متناقضين ظاهرها السلام والصفاء وباطنها النفور والازدراء.
حاول (حسام) أن يسترضيني بكل صنوف المادة ويغدق عليّ أمطار عطاياه بكرم خُرافي، أوجد داخلي حاسة شبع أقرب إلى البلادة منها إلى الدلال، وكأنه عطّل ماكنة انفعالاتي المتضاربة فلم أعد أطلب أو أعترض أو حتى أشاكس، هكذا تحسدني النساء إذ أبدو بينهن الملكة وهن الجواري، كنت أتوق إلى فورة تشعل إحساساتي نحوه كرجل، فقد عطّل داخلي أنثى مترعة بعاطفة جامحة، وأيقظ طفلة ساذجة يسترضيها بأشهى حلوى وتركت نفسي رهن مزاجه البارد وكل عواطفي نحوه تتجمد وكأني مخدرة بمناخه الشتوي الذي يدفعني إلى الاستغراق في النوم بعيداً عن صحو الشمس وشروق الحياة ودفء اللحُمة، تبدلت مكوناتي النفسية تماماً وإذا بصخب انفعالاتي فتور وانطفاء وشعرت بكياني وقد انسلب وتهدد بالاندثار، انتفضت، حاولت أن أتجرد من ثوب الطفلة وأنتزع ذاتي المعتقلة في سجن من ذهب فقد طالت غيبوبتي وأخذني النوم العميق وغرقت في كآبة سوداء، فكيف أفسّر ما أشعر به من عذاب صامت وأنا أحترم شعوره وتأبى عليّ إنسانيتي أن أجرح إحساسه بعد أن قدّم لي كل ما اجتهد من سعادة، فهو لم يذنب وأنا لست مخطئة إنما تعذّر عليّ التوافق بنسق مزاجه وكان اعتراضي قتلاً بطيئاً لنفسي، استشرت طبيبة متخصصة في علم النفس.
((أنتِ لا تحبين زوجك، هذا كل ما في الأمر)).
((وماذا أفعل يا دكتورة، إن ضميري يأبى عليّ أن أطعن من مدّ لي يدين كريمتين)).
((لا أدري يا سامية فالقرار قرارك، من الصعب أن أبت في المسألة الحساسة)).
وأقهرت نفسي على معاشرته بالمعروف، أبادله المعاملة الحسنة بالمثل رغم أن قلبي نافر لا ينبض نحوه بحب وكابدت كي أحمي بيتي وأولادي من كبواتي النفسية الخطرة وعواصفي المتلاطمة التي تنفجر بصرخة لا إرادية تجعل من (حسام) يقف متجمداً في مكانه لكنه يحاول أن يختزل المسافة كلما نأيت بنفسي عنه درءاً لهذه التصدعات وأتعلل بالأمراض كي أتخذ جانب الأمن والوقاية والوحدة تنخر داخلي كهوفاً غائرة يستصعب عليّ أحياناً استخراج ذاتي منها، واستعنت بصديقتي المقربة لأنفس عن إحساساتي وأكثرت الشكوى والأنين حتى وقع في سمعي ذات صباح محاضرة دينية عن جهاد المرأة وحُسن التبعّل وكيف أن معاناة الدنيا حينما نصبر عليها نتذوق حلاوة الصبر وشهد الجنة، فعدت إلى ربي أدعو وأقرأ القرآن الكريم وأناجيه سبحانه في تضرع وشعرت بالسلام الداخلي وصفاء نفسي وهدأة لم أعهدها أبداً في حياتي، وبعد سنة عشت فيها بنوع من التناغم في حياتي توفى (حسام) إثر جلطة داهمته فجأة وغرقت في حزن مرير، وصممت كتم صرختي داخلي وذبح صوتي عن البوح.
هل استجاب الله لي وخفف عني عبء الواجب ووطأة التكلف؟ كأني لم أعرف ذاتي جيداً ولم أستقرأ خبايا نفسي وما يعتمل داخلي من أهواء متنازعة.. ما أشد عذاب الضمير حينما يظل يجلدك في كل حين، لم أكن أتمنى موته أبداً، تحاملت على نفسي بقسوة كي تستقيم حياتي..
مرت سنتان فوقعت في حب رجل عوضني حرماني الطويل، ألقته الأقدار في دربي وإذا بعواطفي الجامحة تطفو على سطوح جليدية وتذيبها وتخرج من جوفي مارد عطشان، عرض عليّ الزواج لكني خشيت التجربة علناً واقترحت عليه سريّة زواجنا، كيف أصف إحساسي وأنا أشرب من نبع لا ينضب، عزف لي كل ألحان السعادة الفردوسية والنعيم السماوي فحلّقت معه في سماء حب صافية، لم أصدّق نفسي إذ كان حديثه شعراً أطربني في دلاله وشعرت وكأن السنين تعود بي إلى الوراء، كما لو كنت صبية طروبة، لاهية، أغرف من بحر أشواقه أجمل الجواهر وأنفس اللآلئ، كان شهماً، كريماً، يفيض رجولة فاستقرت نفسي المضطربة على شاطئ عينيه وشكرت الله عز وجل أن عوضني لأني صبرت على زوجي الأول واحترمت مشاعره وصنت كرامته وكتمت حزني عنه كي أحفظ البيت من أعاصير الزمن (فمراد) وجد ضالته فيَّ، في حناني، في أمومتي الهادئة، وطيبتي الخصبة، كان يعاني من زوجة جافة، ناضبة، وقع بينهما الطلاق بعد نزاع طويل في أروقة المحاكم وأخذ حضانة الأولاد وبقيت أرعاه عن بُعد، أعطيته أجمل سنين حياته ووهبني أروع أيام عمري، كنا توأمة منسجمة في العقل والقلب والجسد، كنت أصغي له بقلبي وروحي وأكفكف عنه دمعه حينما يضربه الزمن ضربات قاسية، خمس سنوات قضيناها ونحن نرفل في النعيم ونشرب كؤوس الشهد بلا خصام أو خلاف وهو يلح كي نعلن زواجنا وأنا أخشى ذلك، فقد كبر أبنائي وفكرة زواج أمهم مرفوضة بشدة، فهم يعتقدون أن الأم قديسة ينبغي أن تظل عابدة في صومعة أباهم حتى الموت و (مراد) اجتاحته مشاكل في بيته الذي يحتاج إلى امرأة تديره وترعى شؤون الأبناء، فتحمل والدته وأخوته على دفعه باتجاه الزواج.
((أولادك يعيشون في فوضى وحاجتك كرجل ينبغي أن تضعها في عين الاعتبار)).
وأنا لا ألبي هذه الضرورات لوجودي في الظل واختفائي خلف الستار، أخشى فقد أولادي، أخشى كلام الناس، أخشى أن أفقد احترامهم، بعد هذه السنوات وسكرات الحب العبقة بأجمل اللحظات تصدمنا هذه العقبة.
فقرر أن يتزوج بعد صراع مرير بين حبه لي وخوفه أن يفقدني لأني تحولت إلى إعصار غيرة وهددته بالانفصال، لكنه برر أنه يحتاج زوجة تدير بيته وترعى أولاده وتهتم بشؤون المنزل وهي لا أكثر من خادمة وكمظهر اجتماعي أمام الناس وأنا لي بيتي وأولادي ولا أستطيع أن أقوم بهذا الدور.
ومنذ اللحظة التي قرر فيها (مراد) الزواج وأنا في صراع وعذاب فقد انقلب الحظ السعيد إلى أيام كلها تعاسة وشقاء نهشتني الغيرة ولسعتني نارها الحارقة وخشيت من مجهول مخيف إذ كيف ستشاركني امرأة أخرى حياة هذا الرجل الذي منحته كل عمري ويجن معي ويضطرب حاله فقد سعى إلى موازنة العلاقتين دون أن يخسرني ويحلف بأغلظ الأيمان أنني الأصل وهي الهامش، وأني الأساس وهي العارضة التي تؤدي دوراً شكلياً وكنت متناقضة في موقفي تارة أدفعه إلى الزواج وتارة أغضب وأثور وأصفه بالخائن الغدّار بينما ينعتني بالأنانية وحب التملك.
صخرة الواقع صدمتنا وأفاقتنا من غيبوبة أخذتنا سنين طويلة، وبدت عواطفي تضطرب صعوداً وهبوطاً، وقد قضى (مراد) وقتاً طويلاً وهو يهدئ أعصابي ويمتص غضبي ويقنعني أنه لن يتغير وسيبقى لي محباً حنوناً مخلصاً للأبد لأنني الأولى والأهم.. فعندما نلتقي يعرف كيف يربت بحنانه على قلقي فأهدأ وأقنع بالواقع لكنه عندما يفارقني تعود الهواجس تصطخب في صدري كالبركان وأبعث له رسائل غاضبة، حانقة تزلزل أعصابه ويعود ليلقاني مرة أخرى ويطالبني أن أذكر الله وأهدأ وأنه يتمنى لو نعلن زواجنا ونستقر معاً في بيت واحد، فيداه مغلولتان وموقفي هو من كبّله ودفعه إلى هذا القرار الذي هو كالسم يتجرعه على مضض.
خطب مراد (أحلام) وهويت منهارة من شدة الصدمة وتأزمت نفسيتي فطلبت منه الطلاق وأغلقت عليه كل منافذ اللقاء، جن جنونه، أخذ يطاردني ويتابعني كلّما خرجت من البيت وحاصرني ذات مكان قائلاً في تضرع ((أقسم بالله أنك حبي الوحيد وزوجتي الأثيرة))، وأقسم أنه لن يستبدلني بأجمل نساء الأرض، بل إنه يدعو ليل نهار أن نجتمع في الآخر، أعود وأبكي وأغرق في حيرتي وأحترق بنار الغيرة، هزل عودي وأولادي قلقون من أطواري النفسية المكتئبة، فانبرى أحدهم قائلاً في قلق:
((اعرضي نفسك على الطبيب يا أمي فأنتي معتلة الصحة)).
كان (مراد) يعود لي حزيناً، مقهوراً، يائساً، إنه يقف أمام زوجته (أحلام) وكأنه أمام امرأة من جليد، كلما تذكر عواطفي الجياشة وحبي العنيف ودفء حناني وصبري وطيبة قلبي يغرق في الدهشة ((أنتِ امرأة ملائكية))، حاول أن يعاشر زوجته بما يرضي الله وضميره ويرعى حقوقها لكنه أبداً كان ينكمش ويتبدد إحساسه بها ويظل مستهاماً بمشاعري المشعة والتي تبعث في قلبه دفئاً مستديماً ويقارن بين الواحة والصحراء، بين الجنة والنار، بين السكن والاضطراب.. هكذا يأتيني منكسراً قد خذلته التجربة الجديدة، وهذا ما سرب غيرتي بعض الشيء، لكنه دخل في معاناة جديدة وصراع نفسي هزم كل قواه النفسية فإذا به ينطفئ في حزن، وكنت أثور غاضبة ((وهل أدخلت امرأة في حياتك لتدمّر حبنا وتنسف البقية الباقية من أطلالنا؟ كنا في الماضي أحلى وأجمل)).
اضطربت حياته فزوجته الجديدة متطلبة، وكثيرة الشكوى والتذمر لا يرضيها أي شيء، تتعقبه وكأنها تريد امتلاكه وتستحوذ عليه كاملاً ففر منها كمن يفر من سجن مرعب أو قيد بغيض، طلقها ودخل في أزمة نفسيّة حادة، حاولت أن أخرجه من هذه الدوامة لكنه كان يتباعد عني وينأى عن اللقاء، شعرت بالذنب ربما أنا سبب كل هذه الفوضى التي تربك حياته، وقررت الانفصال عنه لعلّه يستعيد توازنه النفسي ويرتب أوراقه من جديد وينظم شؤون حياته، صارحته بهذا القرار وقرأت الحيرة في عينيه والصراع الذي استنفذ أعصابه، وإن الأمان النفسي الذي عشته لفترة من الزمن بددته انقلاباته المتفاجئة وهزّت بنيان حبنا فلم يصمد وكانت هدنة أخذتنا إلى كهف الصمت لنستقرئ ذاتنا بتوحد ملغوم بالذكريات العاصفة بالمشاعر تجري في عروقنا مجرى الدم، بكيت وكأن اللحظات المريرة يبقى لها طعم النار المحترقة في صقيع الوحدة، كنت أجلس قرب الهاتف بانتظار الرد ومع كل رنة ينبض قلبي بلهفة وكأني عدت بنفسي إلى الوراء ولحظات الترقب والشغف الأول وأهم بالهاتف لأتصل به لكني أتراجع وخشيت في قرارة نفسي أن يستسلم إلى قراري ويطلقني.
مرت الساعات ثقيلة، بطيئة، تنحت داخلي وجعاً وحُرقة وأنا أقاوم الهاتف وأوشك صبري أن ينفذ واستسلمت للخاتمة وأنا محبطة غارقة في دموعي، وقرب الفجر وبينما أستعد لصلاتي باغتني (ماسج) التقط التليفون وكل ذرة في جسدي ترتجف فقرأت رسالته:
((لا تطلبي مني المستحيل، فإن الموت أهون عليّ من الطلاق)).
تنفست الصعداء وأنا أرتمي على سجادتي شاكرة ربي.

تابع القراءة

الأحد، 27 يونيو 2010

(( ظـل الأخـرى ))

خلف الباب المؤصد ينكشف الستار ويتعرى كيان الإنسان عن الافتعال والتكلف.
منذ اللحظة التي انطفأت سكرته والحزن لا يبارحه شئت أن أسأله لكني ترددت، سأترك الأيام تفسّر لي خبيئته، فهو يرتد إلى اليأس والإحباط مع كل حالة تقارب حتى أدركت أن اللحمة الروحية إذا انفصمت لم تستطع الأجساد أن تتناغم باتحاد كامل.
كثيرة هي الليالي التي ألمح فيها يقظته، يتقلب على جمر القلق، وشبح الأخرى يلمع في عينيه المسهدتين ويكابد كي يطويها في ذاكرته لكنه فضح ما في طويته فنومه المتعثر واستيقاظه في أوقات متأخرة من الليل يتكئ على ظهر السرير والسيجارة تحترق بين أصابعه ينفث عذابها مع دخانه، كان يعتقد أني غارقة في النوم مستلقية على شاطئ الأمن الزوجي قد استوفى كل شروط العلاقة وحقوقها الرتيبة ليعود ثانية إلى خلوته، لا يعرف أني كسيجارته هذه أحترق معه وأتعذب بسببه وأطلق حمم زفراتي في اليوم ألف مرة وأجاهد نفسي كي أستريح من التفكير دون طائل.
لم يمض على زواجنا شهر والفكرة تستحوذ رأسي، لكني لا أدري لِمَا أتردد في مصارحته، أبقيت الأمر عائماً، ربما لاعتقادي أني واهمة أو هكذا أغذي إحساسي وألبس الحقيقة أكذوبة وأصدقها مفادها أنها مجرد وساوس شيطانية ينبغي أن أقاومها باستمرار وأكف عن مراقبة هاتفه وتأويل الشبهات إلى حقائق ملموسة مقرونة بأدلة وبراهين تستدعي مواجهته بجرم الخيانة.
هل أستشير صديقتي المقربة لعلّها تنصحني وترشدني إلى السلوك الأصوب.
نهرتني بشدة: (لا تفتحي عليكِ باب جهنم).
مسحت دمعتي: (لكني أعاني، بل أكاد أفقد صوابي).
- ((لا تخلقي مبررات هروبه، بعض الرجال ينتظر إشارة سلبية من الزوجة كي يقلب المعادلة لصالحة)).
- ((إلزمي الصمت فلربما الأيام كفيلة بدفن خيالها أمام واقع زواجه)).
وأحسبها معركة صامتة تندلع داخلي كي أنتصر عليها وأظهر له محبة وطاعة صادقة، لكن شرارة الالتحام لم تشعل موجة جذب، أشعر وكأني أرجم بالغيب وأراهن على المستحيل فهو يزداد نفوراً وينسحب إلى الأبعد.
ولدت في داخلي رغبة ملحة في كشف هويتها، ماهيتها، تلك النائية بالمكان الحاضرة في قلبه، تستولي على عقله وروحه وتأخذه بشدة إليها فتتركه لي جسداً بلا روح، كيان فارغ وعقل شارد، ما شكلها؟ ما لونها؟ ما طولها؟ المسجات المباغتة تقهر صبري وتخرجني من طور الحكمة، إنه يتزلزل في رنينها وكأنها البشارة السماوية وسمته ينقلب من النقيض إلى النقيض رهن رسالتها المبعوثة، لو أني أعرف هاتفها لقتلت حلمها في المهد وأيقظتها من أملٍ سراب، لكنه هذه المرة خرج مذعوراً بعد أن قرأ رسالتها في الهاتف وأظنه ذهب للقائها أو مهاتفتها لأمر هام.
اتصلت ببدرية صديقتي وأنا أرتعد غيظاً أبلغها انهياري ونفاذ صبري ورغبتي في تفجير الموقف.
هدَّأت من روعي:
((أيتها الحمقاء ألم تفكري أنه لو كان يحبها لتزوجها، بل تزوجك أنتِ، هذا يعني أنها نزوة طارئة تأخذ وقتها وتنصرم)).
نعم، بالفعل، لم ألتفت إلى هذه الحقيقة، لو كان يحبها لتزوجها.
((إنها في الظل، في العتمة، وأنتِ في النور وأمام الناس والواقع الذي يفرض نفسه، والحقيقة التي لا تقبل الشك، وغداً تنجبين له الأبناء لتأخذه أعباء الحياة وتشغله عنها، ربما هي من تتعذب وتحترق بنار الغيرة وتتمنى لو تأخذ مكانك)).
استرحت تماماً وعدت لحياتي بمعنويات مرتفعة أعامل زوجي بمحبة وأداري شكوكي بشيء من العقل حتى وقعت عليه يوماً وهو يختفي في حجرة الضيوف بينما كنت في المطبخ، قد ظن انشغالي فرصة ليهرب إليها خلسة، خلعت نعلي ومشيت بحذر حتى التصقت بالباب الموارب وأصغيت إليه وهو يهمس إليها بارتباك:
((قلت لكِ اصبري ستتحقق أمنيتنا كما نرجو ونتمنى، اذهبي الآن وسأحدثك لاحقاً فالوضع لا يسمح لي بإطالة الحديث معك)).
عدت إلى المطبخ على الفور، وكدت أن أنزلق لشدة اضطرابي وغضبي وكل إحساس سلبي هجم عليّ فجأة، فقدت التركيز ولا أعرف ماذا كنت أفعل، اختنقت، خلعت صدرية المطبخ ورميتها على الأرض بَرِمة ضاجة، ولمحني وأنا أصعد السلم.
((هل انتهيت من تجهيز العشاء؟)).
التفت إليه أرميه شزراً وبامتعاض:
شعرت بدوار ((اطلب من المطعم)).
صمت وهو يبحلق في عيني مرتاباً وكأنما حدس بما يخالجني، دخل الحجرة خلفي وسألني بقلق:
((هل أطلب لكِ عشاءاً؟)).
((لا أشكرك لست جائعة)).
((آخذك إلى الطبيب؟)).
((تناولت حبة بنادول)).
اعترتني موجة غضب عاصفة فانفجرت:
((حسين إن حياتنا باتت مستحيلة)).
ارتبك وحاول أن يخفي انفعاله عبر التشاغل بالكمبيوتر.
((أراك صامتاً، أجبني هل تفاجأت بهذه الحقيقة)).
تجاهلني تماماً وهذا ما استثارني:
((وإذا كانت هناك أخرى فلا داعي لأن نستمر مع بعض)).
((أنتِ تهذين)).
((بل أنا أقر هذا الواقع الذي لا يمكن أن تداريه عني)).
شعرت كمن ألقيت عبئاً كبيراً عني.
((اتركي عنك هذه الأوهام واستعيذي بالله من وساوس الشيطان)).
كان يقطع عليّ الطريق من جميع الجهات وينكر كل تهمة موجهة له ويتملص بطريقة ذكية، وأخذ يحرص في الأيام الأخيرة على معاشرتي بالمعروف ومعاملتي بالحُسنى ويقهر نفسه على إرضائي، لكني أتعذب في قرارة نفسي وأعرف أن هناك من ملأت كيانه وروحه وصمته الذي غلّف أكذوبة حبه لي، فإن كل خلجة من خلجاته مصهورة بعشقها، معجونة بذكراها.
وذات ليل وهو ذاهب إلى الحمام ليقضي حاجته، وبينما في الهدأة أتقلب مسهدة (رنة ماسج) انتشلتني من نوم قلق يجافيني لفرط التفكير، وعلى الفور التقطت تليفونه وقرأت الوارد، كانت رسالتها المفاجئة جعلتني أفهم طبيعة هذه العلاقة.
((زوجي في إجازة غداً، لن أستطيع لقاءك)).
دونت الرقم وأعدت التليفون مكانه وأنا في ذروة ارتباكي، خشيت أن يفطن إلى محاولتي الجنونية، بيد أنه لم يعرف إلا صباحاً عندما قرأ ماسج آخر جاءه منها وهو يهم في الخروج وحدجني بنظرة غاضبة دون أن ينبس بحرف، أعلم أنه لا يملك الجرأة على مصارحتي، اتخذ من الصمت درعاً يختفي وراءه ويستر فضيحته.
اتصلت بهذه المرأة..
لم ترد على اتصالي الأول ولا الثاني لكنها في المرة الثالثة ردت، كنت أنفخ اضطرابي وحنقي بفحيح اختزل كل طاقة الغضب والغيظ داخلي وارتبكت الكلمات على لساني وتدافعت الأفكار بقوة لأن ما في باطني مخزون حنق وإذلال وكل امتهان لكرامتي كزوجة، لا أدري من أين أبدأ؟ وكيف أبدا؟ رغم أني المظلومة التي وقع عليها الظلم وهي المذنبة التي اقترفت جرماً في حق حياتي، لم أجد نفسي إلا وإعصار غضبي يهدر:
((كيف تسمحين لنفسك هذا الفعل المشين وأنتِ متزوجة)).
شعرت برعبها وقد شلّ كل ذرة فيها:
((عفواً من المتحدث؟))
((أنا زوجة حسين، ألا تخجلين من نفسك وأنتِ تطاردين رجل متزوج في ساعات الليل المتأخرة، أين ضميرك ودينك أيتها الخائنة)).
تهدج صوتها وخفت:
((يبدوا أن النمرة خطأ)).
وتابعت وأنا أستجمع شجاعتي وقواي المبعثرة:
((ابعدي عن زوجي وإلا فضحتك أمام زوجك وجعلت سيرتك على كل لسان)).
قطعت الاتصال ونفذت بجلدها.
تنفست الصعداء فقد أطلقت عن صدري حمماً ثقيلة جاثمة، اتصلت ببدرية لأنقل لها الحدث بيد أنها عاتبتني بشدة:
((لقد ارتكبتِ أكبر خطأ)).
((لم أعد أخشى الغرق)).
((هذه اللعبة تحتاج إلى هدوء أعصاب)).
((إن من تعش تجربتي لن يبقى لها ذرة أعصاب)).
((أخشى أن يهددك بالطلاق)).
((لا يهمني فأنا مطلقة منذ الليلة الأولى)).
وتفاجأت بـ (حسين) وقد صارحني بكل هدوء وأظنه حكم بالإعدام على كياني كزوجة، لقيمتي كامرأة تشاركه أدق جزئيات حياته، وبكل بساطة وهدوء اعترف:
((هذه المرأة في طريقها إلى الطلاق، وقد جاءتني إلى المكتب لترفع قضية طلاق بالضرر على زوجها السكير المقامر قبل ثلاث سنوات وأحببتها ومن قبل أن ألتقيك وأتزوجك، وقد نويت الارتباط بها لكن حدث أن رفضت المحكمة قضيتها، وهي ماضية في إجراءات الخلع لكنها متورطة بمشاكل كثيرة وأنا أقف إلى جانبها بصفتي (محامي) ومحب يرعاها وسأتزوجها متى ما تهيأت الظروف لأني لن أستطيع التخلي عنها، هذه هي الحقيقة، والخيار لكِ إن أردتِ البقاء معي كان بها، وإلا فأسرحك سراحاً جميلاً إن شئتِ الانفصال، لن أخادعك وأعدك بوعود لا أفي بها)).
كأني بمطرقة هوت على رأسي وأردتني ميتة، تجمد كل إحساس فيّ، ابتلعت رمقي وتسمرت في مكاني لا أدري كيف أختار أو أقرر... وبصوت خافت حبسته الدهشة:
((إلى هذه الدرجة تحبها؟!)).
هزّ بالإيجاب.
((لكنها مازالت متزوجة؟)).
((إنها في قلبي وكياني ولن أستطيع اقتلاعها مهما حاولت، فكرت كثيراً أن أنساها وأطويها في ذاكرتي لكني فشلت)).
اضطربت، لا أدري ما أقول، انحلت كل أواصري وفقدت قدرتي على ضبط انفعالي، هويت على السرير باكية:
((وبهذه القسوة تواجهني؟)).
بنفس القسوة التي سمحت لنفسك التجسس على خصوصياتي، كنت أداريك، وأعاشرك بما يرضي الله، لم أجرحك أو أهينك أبداً، إنما منحتك حقوقك كاملة وقمت بواجبي بالشكل المطلوب وحاولت كتم حبي حفاظاً على مشاعرك أن تجرح، لكنك تماديت واخترقت أسوار خصوصيتي فوقعتِ في هذا الهمّ.
((لكنها خيانة لا ترضي الله ولا الضمير)).
((أنا أعرفها قبلك)).
((يمكنك التحرر من قيدي إذا شئتِ لن أرغمك على البقاء)).
((أبهذه السهولة؟!)).
((احترت معك، لا أدري كيف أرضيك؟)).
((اتركها)).
((إن تركتها ستظل في عقلي وقلبي)).
((إذن أنت لا تحبني)).
((أحبك، فالرجل يستطيع أن يجمع أربع نساء)).
((كم أنت جاحد وظالم، طلقني لن أستطيع العيش معك بعد اليوم)).
وبكل برود وكأني لا أعني له شيئاً:
((كما تشائين)).
وهكذا...
قضيت حياتي مع هذا الرجل وأنا أتردد على بيت أهلي في كل شهر مرتان أو ثلاث مرات نتشاجر بسبب هذه المرأة، أطالبه بالانفصال وأخرج بحقيبتي مودعة، وأرجع له نادمة أعلن توبتي وتقبل الواقع، ولكن سرعان ما أتذكر ظلها الذي عكس التعاسة على حياتي فأثور، أقرر بنفسي نهايتي وأتراجع عن قرار الطلاق، تخاتلني رغبة في أنه ييأس يوماً منها ويهجرها للأبد وسيبقى لي وحدي.
لأني بكل أسف أحبه بشدةّ!
تابع القراءة

(( غـروب الحـب ))

كنّا أسعد زوجين في الدنيا، بل ويُضرب فينا المثل ووصفننا بـ (طيور الحب) و(روميو وجوليت) وكل ثنائية عشق شهيرة.
وقصة حبنا بدأت منذ سنين طويلة حيث كنت أصطاف مع أسرتي في (لندن) وبينما كنّا نمشي في الهايدبارك صادفنا (باسل) صديق أخي محمد أيام الثانوية كان يدرس الطب هناك فدعوناه على الغداء وقضى الصيف معنا في رحلات رائعة وثَّقت أجمل الذكريات وأروع اللحظات، وعبر هذه المجاذبات شعرنا بميل إلى بعض وارتياح تحول مع الأيام إلى مشاعر جارفة، عدنا إلى الكويت لكني تركت روحي معه، صارحت أمي بمشاعري نحو هذا الشاب فباركت هذه المحبة التي تُوجت بالزواج بعد شهور.
وزواجي صرح سعاة شيدته مشاعرنا المتلاحمة وعواطفنا المتآلفة، انسجمنا وتفسر هذا الانسجام بالتبادل اليومي لأدق جزئيات الحياة، كان كلانا حريص على أن يقدم للآخر أفضل ما عنده وأعز ما يملك ويبذل مهجته وروحه ليسعده، لم يكن (باسل) إلا رجل معطاء، حنون، غمرني بحبه ففاض على كل الناس حولي، يشرق حبه في بسمته المنعشة، في إطلالتي النضرة، في حيويتي المتدفقة، في نظرات عيوني، كنت سعيدة، وكل من يشاهدني يجزم يقيناً أني أسعد زوجة في هذا الوجود، فكيف أصف أجمل ليالي عمرنا ونهارات مشرقة وأنا أعدّ فطور الصباح في حديقة بيتنا الغنّاء فلم يخرج يوماً إلا وهو يؤدي طقوس حبه كعاشق متيم، ونبقى طوال النهار نتبادل مسجات المحبة ورنينها كتغريد العصافير... حتى أنني استثنيت رنة هاتفه كزقزقة عصفور وأمزح حينما يداعبني هذا الصوت (يا عصفوري العاشق)، أنجبت طفلتي (بسمة) برعم الحب الذي تفتق في بستان حياتنا وحلّقت كطير طليق في سماء أسرتنا السعيدة.
وفي كل سنة نحتفل بعيد زواجنا ونقضي ليلة في أرقى فنادق العاصمة لنجدد أيامنا الرائعة وذكريات شهر العسل وكان يفاجئني بصبيحة هذا اليوم بباقة ورد خلاّبة ذات ألوان مبهجة وكارت صغير يكتب عليه جملة واحدة (تمر السنين وتبقين وحدك حبي).
كل صور السعادة عشتها وكل مذاقات الهناء ذقتها، وسموت في مشاعري نحو ذروة النعيم المترع من أصفى الدنان، ولدت بعد سنتين زهرتي الثانية (أريج) لتعبق بالأفراح والمرح وتسبغ كل أيامي سعادة وحبور، صار بيتي جنة هبطت من علياء السماء لتمكث في الأرض.. الشوق اللاهب يلفحني بفحيحه حينما يسافر إلى مؤتمراته الطبية، أترقب أوبته على جمر اللهفة ويدغدغني الأمل في لقاء ينعش قلبي وساعة قرب تأخذنا إلى أبعد أفق تتلاقى فيه توأمة عاشقة ورسائل حنينه تعزف على وتر قلبي لحناً فردوسياً أردده مع كل نبض من نبضات فؤادي وأستعد ليوم عودته فأقلب حجرة نومنا رأساً على عقب، السرير بلون جديد، المفرش، باقة ورد، الشموع دفء الرومانسية والوهج الحالم، أتخيل لحظات مرتقبة تروي عطشنا بعد فراق.
أحببته حباً فاق المنطق واجتاز حدود الإمكان وذبت في كيانه إلى حد الهيام، فباسل رجل مهذب الأخلاق، جم الخصال، رفيع الشمائل، متدين، يغض البصر عن النساء ويشبع بصره مني أنا حليلته زوجته، فضلاً عن ذلك كله فهو ناجح وطموح قد خبرته في أحلك ساعات حياتي فوجدته السند والعَمَد، وعندما تطرأ على حياتي مشكلة يقف خلفي حنوناً داعماً يشد أزري، احتواني بشهامة وصبر وما من أزمة نفسية مررت بها إلا ووجدت قلبه الكبير ذلك الوطن الذي يحتضنني وابتسامة الرضى على وجهه، هو الأم والأب والأخ والحبيب والزوج، أتذكر يوم أجهضت طفلاً بعد ابنتي (أريج) والحُمى سربلتني بحرارة لافحة أحاطني بحنانه وجلس قربي يطعمني ويسقيني ويهدهدني، وعندما أبصر ضوءاً من بين ضباب الصحو والغفوة ألمح نداوة عينيه وآهته المكبوتة وهو يغالب حزنه ويطويني بين ذراعيه كطفلة شريدة تأوي إليه بعد طول شتات.
ويناديني بـ (جوهرتي الفريدة) واحترامه المقدس عندما أطل بين الناس مشيراًَ إليّ كما لو كنت رمزاً للكمال النسوي بفخر واعتزاز وكأني تحفة من السماء نازلة بتضوع منى اليقين بأني أجمل وأفضل وأروع امرأة بين نساء الأرض فأمتلئ ثقة بنفسي وينتعش قلبي ويدفء المدن النائية التي لم أكتشفها بذاتي أبداً، فالاستقراء العميق لشريكنا المحب يجعلنا نفهم ذاتنا بشكل مختلف.
فمنذ أن التقيته ونبعه يرويني من مناهل روحه الشامخة ومورد عواطفه المترعة بالخير والطمأنينة.
حتى كان ذلك اليوم الذي انقبض فيه قلبي وأنا أجهز حقيبة سفره، لا أدري لِمَا أحسست بالضيق والكدر وأن شيء في أعماقي يُنتَزع، لم أخف بنشاطي كعادتي كل مرة، فقلبي منكفئاً وغائماً، حاول (باسل) تسربة همي وملاطفتي لكني مكتئبة، ولا أعرف كيف أعود إلى طبيعيتي على الأقل لوداعه بشكل محبب ولطيف.
عانقني:
(سأفتقدك).
حدجته بنظرة عميقة:
(ليتك تلغي هذه الرحلة).
(لا أستطيع يا حبيبتي، تعرفين أنه مؤتمر هام).
(لست مرتاحة هذه المرة).
قبلني وهو يحاول تسكين قلقي:
(كلها أيام وأعود إليكِ).
وسافر إلى باريس وبقيت غارقة في لجة والاضطراب وحاولت في أيام غيابه أن أتشاغل بالبنتين أخرجهما في نزهات على شاطئ البحر، لكن الصوت الهادر في أعماقي يعربد بقوة وينبئني أنني موعودة بقدر مشئوم، وأن الدهر الخؤون سيغمد خنجر القهر في صدري ويرديني صريعة الشك والوسواس.
في الأيام الأولى بلغت اتصالاته من الكثافة ما أعاد الطمأنينة إلى قلبي، لكنه انقطع فجأة، قلقت عليه وكنت أعاود الاتصال به لكن تلفونه مغلق وعولت على انقضاء المدة وعودته في ظرف يومين فلا مبرر للاتصال، بعد فترة اتصل متعللاً بالانشغال وأبلغني أنه مضطر إلى تمديد أيام لشغل طارئ.
جن جنوني ووقعت في قعر جحيم الشك والظنون أرسم في ذهني صورة لشقراء فتنته في باريس وكتمت داخلي صرخة متمردة تبحث عن فضاء واسع من الحرية لكني قمعت هذا الغربال لأنني إن تماديت فسأدخل في دروب وعرة.
عندما حدثني بكيت بكاءاً هستيرياً:
(لقد تغيّرت يا باسل، لم أشعر بأشواقك مثل قبل).
يصمت ثم يحوقل:
(لا حول ولا قوة إلا بالله).
(إحساسي يحدثني أن في حياتك امرأة).
اختصر الحديث ليهرب:
(اعتني بنفسك، مع السلامة).
لماذا اختصر الحديث؟ لماذا هرب من المواجهة؟، لماذا اختزل الحوار؟
شعرت بانطفاء لهفته، وتباعد اتصالاته وسكنات صمته وهو يبدد ارتباكه، وعندما رجع وجدته إنساناً آخر، له وجه قد تبلدت فيه كل مشاعر الحب فلم تصلني ذرات إحساسه، ثمة حاجز وقف بيننا جعل رسالة قلبه ميتة، مفتعلة، متكلفة.
استقرأت من عينيه الحائرتين سراً يعتمل داخله:
سألته:
(ماذا وراءك؟).
رد ببرود وجفاء:
(لقد جنّ جنونك).
(باسل لا تضيعني أرجوك، لا تسقيني السم الزعاف بعد أن روتني من رحيق الحب والحياة).
جلس على حافة السرير مطرق يلقي رأسه بين كفيه، وهنا صرخت وكأني نمرة مفترسة أنشب مخالبي فيه:
(خائن، خائن).
رفع رأسه وألقى إليّ نظرة دامعة:
(الأمر خارج عن إرادتي.. صدقيني).
هجمت عليه ألكمه بعنف وأنا فاقدة صوابي:
(إحساسي لا يخطئ، خائن، غدّار).
انفجر باكياً.
وجلست قربه أنفضه وأهزه ملء غيظي ليرشح بالحقيقة:
(قل لي ماذا حدث، هل هي نزوة وانقضت؟ ماذا حدث أرجوك صارحني سأجن، سأهلك).
تنهد وهو يبتعد عني ويخرج من الحجرة لكني لحقت به وسحبته من ذراعه:
(باسل اعترف وإلا قتلت نفسي، ألا تشعر بالنار كيف تستعر داخلي).
لكن صمته كان يعذبني ويحطم كل أواصر صبري ومقاومتي.
بلغ انهياري الذروة فأخذت أحطم الفازات والتحف وكل ما يصادفني في طريقي وأنا أتعقبه وهو ينزل عبر السلم، لم أكن أعلم أن رواء الحب الذي سقاني طوال السنين قد تقيأته جمراً وسماً في هذه اللحظات.
جاء وطوقني بذراعيه وقبلني باكياً مبعثر الأعصاب وأسقاني شربة ماء:
(أرجوكِ اهدئي).
أجلسني على الكنبة في الصالون ولبثنا في صمتنا لحظات ثم انبريت أسأله:
(صارحني يا باسل أرجوك، ماذا حدث؟).
(أرجوكِ لا تحرجيني).
وبتوسل وانهيار:
(أرجوك أنت أن ترحمني وتصارحني بالحقيقة).
(التقيتها في لوبي الفندق الذي نزلنا فيه وهي عربية مقيمة في باريس).
كنت أصغي كمن ينتظر حكم الإعدام وكل جارحة من جوارحي مستنفرة.
وتابع في خجل:
(اقتربت مني تسألني عن عنوان مطعم عربي فاعتذرت لأني لا أعرف المكان بالضبط، ثم دعتني على فنجان قهوة في مقهى الفندق ولا أعرف كيف استدرجتني حتى تزوجتها زواجاً مؤقتاً).
كان يحاول أن يخفي ارتباكه.
صرخت:
(أكمل.. وماذا حدث بعد ذلك؟ أحببتها ونسيتني).
في هذه اللحظة أطلق الحقيقة كطلق ناري في رأسي فنسف صميم حبي بالحقيقة المؤلمة:
(شعرت أني أحبها وأريدها باستمرار).
صحت وأنا غارقة في اليأس:
(وأنا؟ أنسيت من أنا؟ ألم تذكرني وأنت تنحدر بنزوتك إلى هذا الحضيض؟ ألست حبيبة قلبك؟ رفيقة دربك؟ ألم تفكر بمشاعري؟ بإحساسي المطعون بالطعنة القاتلة في صميم فؤادي؟ ألم نتنفس من رئة واحدة؟
أعرض غاضباً:
(أرجوكِ كفى، لم أكن أفكر بجرحك أبداً، حاولت كتم الأمر عنك حرصاً على مشاعرك لكنك مصرة على الخوض في التفاصيل المزعجة لكِ).
وكأني في غيبوبة أحدث نفسي شاردة:
(وحبنا؟ أيامنا؟ أنسيت أني زوجتك ولي حق عليك في أن تصون عهدي؟).
(أنا صادق يا سوسن وصريح معك ولا أعرف الكذب والمراوغة ومازلت أحبك بشدة، لكن هذه المرأة شغلت تفكيري وتسللت إلى أعماقي بذكائها وأسلوبها وفنها، صدقيني هي امرأة مثقفة تدرس الفن التشكيلي ومتوسطة الجمال فأنتِ أجمل منها بكثير لكني شعرت أني منساق إليها بشكل لا شعوري، حاولت مقاومتها.
صرخت ملء روحي الممزقة:
(جبان، خائن، غدّار).
ولكم أن تتصورا كيف يأتي الرجل الذي ملًَّكته قلبي وحياتي ليعلن أمامي عن حب جديد دخل قلبه فاستحوذ عليه.
تمزقت أعصابي ودخلت في نوبة كآبة وهجمت عليّ سلسلة من الأمراض الجسدية حتى أن الأطباء أخذوا يترددوا على بيتنا من كل شاكلة ونوع وأجمعوا أن عللي ترجع إلى أزمة عصبية.
وزحف الشؤم على بيتنا الذي كان كالجنة، يغرد كالربيع، ويضحك كالشمس، طلبت الطلاق لعله المخرج لمعاناتي، إذ يكفيني أن أهرب بكرامتي المجروحة وأترك له فراغاً وذكرى، لكنه رفض الطلاق وأقنعني أنه قد هجر هذه المرأة وعمل على لمَّ شملنا من جديد ورأب الصدع، لكني فقدت ثقتي به وفقدت إحساسي بالأمان، وصرت مرتابة متشككة من كل تصرفاته، إن اتصل بهاتف ظننته يحدثها، وإن خرج في مشوار حدست أنه ذاهب للقائها، وإن صمت حسبت أنه يفكر بها، ما عدت أحبه كالأمس، ماتت ضحكتي على شفتيّ وانطفأت حيويتي، حاولت أخته أن تصلح المكسور وترمم المشروخ، لكني صرت إنسانة أخرى، قلبي المطعون مازال ينزف ألماً ويكابد وجعاً لم يبرأ بعد.
في هذا المساء كنت أقف أمام النافذة المطلة على حديقة الدار وأبكي أطلال حبي الذي تحطم، الحديقة التي أهملتها فجفت الأغصان وذوت خضرتها وذبلت أزهارها التي كنت أعتني بها وأسقيها لأنها المشهد الأزهر الذي يجمعنا في الدوح الندي كل صباح حينما نتناول فطورنا، لمحت من بعيد سيارته تقف في عتمة الكراج وبصيص نور الهاتف وهو يختلس حديثاً من نوع خاص قد اتخذ من ظلمة الليل ساتراً لعلاقته.
ساعة ونصف بالتمام والكمال، ثم دخل وفي عينيه بريق وعلى محيّاه نضارة من ارتوى وانتعش..
فررت من الحجرة غاضبة وأنا أصفق الباب ورائي.
لحق بي:
(إلى أين؟
(عن إذنك، سأنام في حجرة أخرى!).
تابع القراءة

حادثة في غرفة (5)

همسة: "يقهر الله عباده بالموت والمرض"

ترك (عبد الجليل) ضيوفه في مقهى الفندق بعد أن أمضى ليله معربداً بين نشوة الخمر ولذة الميسر. فقد داهمه صداع فتاك لم يهدأ رغم العقار المسكن الذي تناوله مرات عدة.
استأذنهم:
"أشعر بالإرهاق وأظن أنني بحاجة إلى النوم".
ومشى مترنحاً نحو غرفة (5)، شعر بخدر يدب في ذراعه اليمنى ثم يزحف ببطء ليشمل ساقه كله، بات جسده متنمل الأطراف وبمشقة دخل حجرته، تناهبته أحاسيس غريبة هذه المرة، فثقل جاثم على صدره وبالكاد يأخذ شهيقه ويلفظ زفيره، فك أزرار قميصه وتخلص من حزام البنطال تحرر شيئاً فشيئا من الألبسة الضاغطة على جسده السمين بيد أنه يختنق ويختنق حتى شمله ذعر وخوف، شحب لونه وأحس بنور الحجرة يختفي ويتلاشى، ضاق به المكـان. ثمة انفصام عزله عن محيطه فدخل في شرنقة معتمة، صرخ ولا أحد يسمعه، مد يديه ليمزق الجدران الهلامية التي التفت حوله فأحس بفراغ رطيب نازع روحه في لجة الخوف والفناء. كفً ملكوتية تقبض روحه وتسلخها عن طبقات جسده الطينية والزبد المر يغرغر في زاوية فمه، ارتعدت فرائصه وهو يكابد
"لا أريد أن أموت، لا.. لا.. لا أريد.
يقاوم كي لا يلفظ جسده الروح.
يبكي كطفل اندفع من أحشاء أمه.
"رحماك ربي من هذه الوحشة".
ويتسربل في ظلمة خانقة لا حدود لها ولا أبعاد إنما فضاء لا متناهي تغمره الكآبة والصمت.
وفي ذروة الانعتاق القهري يتذكر قصره الفخم، زوجته الحسناء، أولاده، الثروة التي ربت طوال سنين حياته، الرغبة في الحياة تعتمل في كيانه وتشتعل في صدره، حبه للدنيا، كيف يفارق هذا النعيم، كيف يهجر المباهج إلى حفرة مسكونة بالأشباح، يتلفت حوله هلعاً فإذا بالصمت المطبق والخواء البغيض، صرخ مستغيثاً فإذا بذراعين مفتولتين تطبقان على عنقه فتخنق صوته وتحبس أنفاسه يرفس برجليه ويقاوم بيديه، جسده الضخم يرتج على السرير كمن يصارع عملاق، يتفصد جبينه عرقاً وينشل لسانه فتخور قواه ويأن من شدة الألم، ثم تدكه ضربات تلامس في العظم فيبكي مسيرة عام حتى تنشق الأرض وتبتلعه في جوفها الحار فينزلق الماء إلى فمه وأنفه وأذنيه فيصطلي بفورته ويتضرع إلى الله في ذل
"يا رب، ارحمني، ارحمني"
تظهر من زاوية المكان أفعى عملاقة تزحف إليه متحفزة في غضب تفترسه بنظراتها الشرسة فتلتف حوله وتعصره حتى يلفظ من أنفه وفمه وأذنيه كل ما أكل وشرب طوال سنين حياته.
ينادي فلا من مجيب، يصرخ ولا من مغيث، يتأوه
"أدركني يا رب، أرجعني إلى الحياة، أرجعني إلى الدنيا" يقع مغشياً عليه ثم يفق بعد حين على فضاء دخاني مائل إلى الظلمة ليس فيه أرض أو سماء، يبصر فوق، تحت، حوله، إنه ليس في كيان مادي، يستنجد بأولاده، بزوجته، بأهله يسمع قهقهاتهم لكنهم لا يلبونه، يأتيه صوتاً مرعباً، حانقاً يشق هذا الحجب الخرساء فينتفض
"تذكر يا عبد الجليل ماذا فعلت في دنياك؟"
لا يعرف أين مصدر الصوت، حاول أن يستدل على أثره لكنه سقط في حفرة من نار وانهالت على أطرافه سلاسل من حديد تلتهب حرارة فوثقت يديه وقدميه وجاءه رجلان مُكفهرا الوجه، أشعثا الشعر، وفي يد كل منهما كرباج يستعر من قعر جهنم.
وفجأة انكشفت العتمة عن شق من نور في سقف اللحد فمرت سحابة شفافة استقطبت ناظريه
صرخ أحد الرجلين
"انظر يا عبد الجيل فبصرك اليوم حديد"
انكشف السقف عن شاشة كبيرة
انكمش عبد الجليل خجلاً فأحداث حياته تمر أمام عينيه كاملة غير منقوصة، واضحة غير مشوشة، شريط الآثام والذنوب والمظالم التي اقترفها طوال السنين.
ضربه الرجل القبيح الواقف على يمينه قائلاً: "أكلت المال الحرام، إذ ائتمنك أبوك على ثروة أخيك القاصر فأكلت حقه وتركته يعيش اللظى والحرمان".
ويجلده الآخر مشيراً إلى المشهد الثاني
"كنت ابن عاق"
تركت أمك تعيش وحيدة حتى ماتت حسرةً لترضي زوجتك الحسناء".
صرخ من فرط الندم
(العفو، العفو يا رب)
يجيبه الرجل "لا ينفعك الندم يا عبد الجليل" انظر إلى نفسك في هذا الموقف وربما قد نسيته أو تناسيته إذ كنت ظالماً، جاحداً، جاءك رجل فقير عند باب الشركة يطلب منك العون نهرته وطردته ثم ركبت سيارتك دون رحمة.
بكى عبد الجليل وهو يتابع المشهد المؤسف عن حقيقة نفسه الجاحدة.
"غفرانك يا رب، غفرانك".
(كنت ديوثاً يا عبد الجليل حينما عرضت زوجتك الفاتنة تختال بين ضيوفك شبه عارية وبدوت مزهواً بجمالها، فخوراً بشبابها وربما تعلم في قرارة نفسك إنها نديمة أرباب الثروات) تنهال السياط على وجهه، بطنه، ظهره، فترشح خلاياه دماً وصديداً عفن الرائحة وتباغته الديدان والعقارب وهي تزحف على أطرافه فتلدغه في كل ناحية وصوب ويستنجد متضرعاً حتى تلاشى ضعفاً وهواناً.
وتترى المشاهد الفاضحة التي تدين تاريخه الملوث بالحرام فحاول أن يغض بصره خجلاً لكن الرجلين ينهرانه بشدة
"أنظر إلى وضاعتك وأنت تتحرش بصبي صغيرا!"
تعود الأفعى السامة فتلتف حوله وتعصره حتى يكاد أن يتفجر رأسه فسالت الدماء من فمه وعينيه وأنفه ثم نضبت لتخرج من بعدها ديدان تلسعه كوخز الدبابيس في عينيه وفي أطراف لسانه.
(التوبة، التوبة يا رب أرجعني إلى الدنيا لأكفر عن ذنوبي) تخرسه لطمة على فمه ويزمجر الصوت الهادر بالغضب
"عبد الجليل، تهاونت بصلاتك، وصومك"
"أجل أجل ولكن دعوني أرجع إلى الدنيا لأعبد ربي حق العبادة".
وتظهر مزيداً من صور الفواحش والذنوب أمام عينيه فيصرخ وهو يشد شعره أبعدوا عني هذا العار لا أريد أن أشاهد ما اقترفت من أفعال، كرهت نفسي، فقد فعلت ما لا يفعله البهائم.
"هذه صورك في الحياة الدنيا يا عبد الجليل، انظر إلى جسدك المتعفن وهو يرقد على سرير ملطخ بالشهوات تخادعنك أراذل النسوة وهن يسقينك الخمر الحرام".
وتهوى مطرقة ثقيلة على رأسه فتفتت مخه فتنتشر كتل الدماء على بطنه وأطرافه فشعر وكأنه في قعر حفرة من نار
أرحموني من هذا العذاب
آه.. آه.. النجدة.. النجدة"
الطرق العنيف لا يكف عن باب حجرة (5) النزيل يستغيث منذ مدة.
النور يتسلل إلى عينيه كلما اشتد الطرق على الباب.. وينقشع عنهما الضباب مع انبلاج الوعي.. فتحهما على اتساعهما، تلفت حوله مبهوراً.. تلمس بأطرف أصابعه أعلى رأسه فكان كاملاً، تمعن في ذراعيه وساقيه وبدت سليمة..
الطرق مازال قائماً
"أين أنا، أين كنت"
محاولة لانتشال نفسه من حالة اللاوعي..
وأخيراً انتبه إلى الضجة خلف الباب، وثب من فوره ليفتحه
ابتدره مدير الفندق
"هل أنت بخير؟ فقد سمعك عمال الفندق تصرخ وتستغيث"
تلعثم خجلاً ولا يدري كيف يبرر.
"الحمد لله أنا بخير، كان مجرد كابوس"
وعندما انفض الناس، جلس لوحده يفكر بالحلم المرعب وقد ترك داخله أثراً كبيراً.
وتساءل هل كان إنذاراً من الله فقد نازعت روحي وذقت من كأس الموت المرير رشفة فما يفصلنا عن الحلم واليقظة؛ الموت والحياة سوى حجب شفافة يقشعها الله بإشارة منه (كن فيكون) فإذا بنا لا شيء.. لا قيمة... فناء.
أطرق محزوناً
"آه.. كم أنا نادم على ما فعلت فإن العذاب الذي اصطليتُ بجحيمه هذه الليلة عرفني بنفسي وعلمني أن هذا النعيم زائل وأن الحياة جوفاء.
ذهب عبد الجليل إلى أحد مشايخ الدين ليفسر رؤياه فأخبره إنه إنذار كي يتوب ويرجع إلى رشده فالموت ماثل لابن آدم في كل وقت وملك الموت يتفقد البيوت كل يوم خمس مرات، يحمل بين يديه سجل بأسماء البشر يتصفحها وفقاً لمواقيت الصلاة ليقبض روح من جاء موعد رحيله.
واستعد (عبد الجليل) لهذه الرحلة فحج إلى بيت الله تائباً ودفع حقوق الناس وكفر عن ذنوبه فكان كيوم ولدته أمه.
تابع القراءة

(( بنـت الخمسيـن ))

على مشارف الخمسين تقف سنين عمري الناضبة، قد أسدل القلب ستاره وأقفلت منافذ الرواء لتنكفئ روحي في الوحشة وأهيم في فضاء خاوٍ إلا من صدى السنين يأتيني ماطراً بالدموع، يوم أن خطف الموت خطيبي وأنا في غضاضة العمر وترك في قلبي غُصّة حارة ظلت مستعرة حتى شاخت غصوني وذبلت أوراقي وتركت عمري نهباً لأمّ جاحدة وإخوة قساة يقضمون خبزي ثم يبصقون في وجهي استكباراً.
راتبي المستقطع من لحمي ودموعي تنهبه الأمّ المتجبّرة وتكنزه لحسابها الخاص، منذ بواكير الصباح وحتى غروب الشمس تنقضي سنين عمري في فراغ، أعيش أجيرة في حجرة باردة وآكل بقايا الطعام والرُعب من المجهول يغمرني حتى المنابت وعيون أخوتي المفترسة على جيبي السخي يعيشون في رفاهية وأعيش في كفاف، ينفقون في بذخ وأمسك في تقشّف وكأن المرأة التي يفوتها القطار يسحقها الزمن تحت أقدامه ويتركها فتات.
يُستنفذ راتبي كله لأقف في نهاية الشهر خاوية اليدين قد تبدد على سيارة هذا وحاجة ذاك، وسفر هذا وغرض ذاك، أفنيت عمري هباءاً والاستحقاق كان الجحود والنكران.
غرقت في اليأس وأفرطت في الطعام لعلّ لذته تنعش حرماني فأنا مخلوقة أنقرض وأشيخ والطفيليون يمتصون رحيقي لآخر قطرة وأنا مستسلمة لأن خياراتي في الحياة تكاد تكون معدومة...
ذات يوم قررت أن أستبدل سيارتي القديمة حيث شاخت من قبل الأوان لأشتري جديدة تحتمل أعبائي المرهقة، ذبحتني كلماتهم ونحرتني نظراتهم فمثلي لا حق لها في الحياة ولا لأي لون من ألوان الابتهاج ، فأنا الدابة الصموت المذعنة في الذلّ، قتلوا أنوثتي حينما تهبّ نسائمها العفوية فأرتدي ثوباً زاهياً يهفهف على بدني السمين تغمد عيونهم الساخرة خناجر التهكم والسخرية في جوف روحي العاجزة، فإذا بالرداء يتسربل بالنار فيحرق جسدي وخصلات شعري الذاوية أبعثرها في احتيال فتضفي على وجهي مسحة أنثوية ساذجة، يأتيني صوت صاعق يزلزل ثقتي بنفسي:
(جُنت فردوس!)، هكذا أُجرح.
ويتبعه الآخر:
(إنها تتصابى).
أقفلت الباب على الحياة وانكفأت في وحدتي أنتظر الموت لعلّ في الموت خلاصي من العذاب.
خرجت في اليوم التالي إلى الكراج لإصلاح عطل في سيارتي الهرمة التي لازمتني سنين المحنة، وهناك كان قدري..
التقيته...
شاب من (جنسية عربية) في العقد الرابع، مهندس، طحنته ظروف الحياة المُرّة فجاء يكدح في هذا الكراج.
لم أكن متوازنة، شملني اضطراب، تركت سيارتي بين يديه وجلست أنتظر في حجرة قريبة، غبت في أفكاري المتضاربة فمازال الأمس الثقيل يحبس أنفاسي.
(السيدة متعبة، هل أطلب لك فنجان قهوة؟).
ذبذبات صوته تلتقطني من الوجع.
سألته شاردة:
(هل انتهيت من إصلاح العُطل؟)
عيوننا في تماس أوقد شرارة مبهمة.
غضّ بصره بينما أطرقت في خجل.
(إنها بحاجة إلى قطع غيار جديدة ولا أدري كم من الوقت سيستغرق الأمر).
تذمرت لأن جزء كبير من كيان حياتي قد تعطل.
(اتركي لي رقم زوجك لأتصل به فور أن أنتهي من التصليح).
دونت له رقم هاتفي وقدمته له.
شرد قليلاً ثم هتف في حماس:
(سأجدد لكِ روح السيارة وكأنما خرجت لتوها من المصنع، أعدكِ بذلك).
تجرأ في دعوته:
(تفضلي لتشربي فنجان قهوة، يا آنسة؟! مستدركاً في فضول.
وأنا مشتتة، صحت (نعم).
وضع أمامي فنجان القهوة وجلس يدون بعض المعلومات الخاصة بالسيارة ويتعلل بأسباب العطل كي يستبقيني أطول وقت ممكن ويشرح لي المشاكل التي قد تسببها لي مستقبلاً إن لم أستبدل قطع الغيار ويطيل النظر بي مستقرءاً رد فعلي ثم صمت قليلاً وسألني مقتحماً:
(لِمَِا أنتِ مضطربة؟).
انفرط اتزاني وتبعثرت الكلمات على لساني:
(أنا.. لا، لا).
ويستحكم قبضته:
(إحساسي يُنبئني أنكِ عازبة ووحيدة، فمعظم النساء اللاتي يأتين إلى الكراج في الغالب إمّا مطلقات أو أرامل أو عازبات).
استجمعت قواي ونهرته:
(لا أدري كيف تجرؤ أن تحدثني بهذه الوقاحة؟).
تراجع:
(آسف جداً، لا أقصد، وإنما أعرض مساعدتي فإن احتجتِ إليّ أنا في الخدمة).
اندفعت نحو الباب في ارتباك.
استوقفني:
(الميدالية!).
فك الحلقة والتقط مفتاح السيارة ابتسم:
(تفضلي).
تعمّد مسّ أصابعي وهو يدس الميدالية في كفي.
تظاهرت أني متماسكة، أخذت الميدالية ونفرت إلى الشارع، لحق بي:
(كيف ستعودين إلى البيت والشارع خالٍ من السيارات، ارجعي ريثما أتصل بسيارة أجرة).
لكني تجاهلت نداءه، إذ هربت دون أن ألتفت إليه.
وعند ناصية الشارع ألقيت نفسي في أول سيارة أجرة مارة في الطريق، التقطت نفساً لاهثاً فنبضي يتسارع في خوف وكأنما يطاردني ذئب مفترس (ماذا حدث لي؟ وماذا يحدث؟
استنكرت فضوله الوقح وجرأته السمجة وأشفقت على نفسي الواهنة وقد صارت للذئب مطمع وندمت لأني لم أرد عليه بقوة وأردعه في حزم، استضعفني فتمادى في تحرشاته.
دخلت حجرتي أبكي، فالحياة الشائكة التي عشتها سلبتني الثقة بنفسي وأوهنت ذاتي فسحقت كل معاقل القوة داخلي، شعرت بهشاشتي فقد ظنني فريسة سهلة ينهش لحمها، ذلك الأحمق المتعطش إلى المغامرة.
استدركت ساخرة:
لكنها مغامرة ساذجة ليس فيها متعة إلا متعة الاستكشاف فحسب، ففتاة مجرّدة من النضارة، يابسة، ذاوية، لن يجد فيها الرجال أي نوع من الغواية.
رن الهاتف
فاجأني صوته، صداه مازال في ذاكرتي.
(أنا آسف لما حدث اليوم، صدقيني لم أقصد إلا الخير).
داهمني إحساس غريب لم أفهمه بعد.
(ماذا تريد مني؟).
(أنتِ مخلوقة نادرة في هذا الوجود، فخجلك العذري وارتباكك الجميل دل على صفائك وطيبة قلبك، صدقيني شعرت بالارتياح، أحسست وكأني أقف أمام ملاك شفّاف لم تلوثه المدنية الصاخبة بعد).
الدهشة عقدت لساني فقد كنت حذرة في إجابتي إذ حسبت إنها نوع من أحابيل الرجال.
عنفته:
(أرجوك إبعد عني).
استأنف منفعلاً:
(أرجوكِ أنتِ.. أعرف أن كلانا وحيدين وبحاجة إلى بعض).
في دهشة:
(ماذا تقصد؟)
(إعتبريني أخ، صديق، تحدثي إليّ كلما ضاقت بكِ الدنيا، اسمعيني حينما لا أجد في الغربة من يسمعني).
أقفلت الهاتف وأنا ألهث في اضطراب..
وعدت أفكر في حيرة ماذا يريد مني هذا المعتوه فأنا عجوز في خريف العمر وهو شاب في أُلق الرجولة؟
شغلني واستحوذ على تفكيري وكأن نوراً شاحباً ينبلج في عتمة الليل البهيم.
وأمضيت وقتي ساهمة أسترجع كلماته وأقلبها في الذاكرة لأستكشف غرضه، كرر اتصاله وقلب حياتي رأساً على عقب فقد غذّى إحساسي بالحياة وزرع في أرضي القاحلة نبتة خضراء وأعاد سنين حياتي إلى الوراء، وقد لاحظت أمي تبدل مزاجي وتغير سلوكي وعزلتي الدائمة في الحجرة فكنت أهرب منها كلما همّت لتسألني عن أحوالي وأبرر هروبي بالصداع والرغبة في النوم.
اتصل (محسن) لينبئني أن سيارتي جاهزة لاستلامها، ولا أدري لِمَا شعرت باللهفة تعربد في صدري وتغمرني بفرحة عارمة، هذبّت هندامي وتصالحت مع مرآتي وطليت وجهي الشاحب بطلاء أزهر، لا أعرف كيف تراجع عقرب الزمن إلى الوراء وكأني صبية مراهقة، غرّدت عصافير الشوق في فؤادي الصادي.
وقفت أمامه مرتبكة، ظل يحدّق بي طويلاً ثم كشف عن ثغر باسم وكأنما وثق في مرماه، هتف:
(تعجبيني).
احمّر وجهي خجلاًَ، لكنه انبرى قائلاً في حزم:
(سنتزوج!).
لفتني دوامة ورمتني بقايا، صحت من غياب:
(زواج؟! وهل تظن أن مثلي تصلح لذلك؟).
شدد على رغبته:
(نعم أريدك زوجة، فأنتِ المرأة التي أبحث عنها).
في انشداه مستدركة:
(أهلي، الفوارق، الظروف، لا أعتقد أن الأمر سهل كما تتصور).
(لو آمنتِ بي ووضعتِ يدك في يدي حتما سنهزم المستحيل).
تقدّم لخطبتي، وكانت عاصفة هوجاء لفّت البيت في صراخ وخناق ومعارضة شديدة ولم أستسلم لضعفي إنها المرّة الوحيدة التي أنتفض فيها على ذاتي وأتحدى ظروفي ولم أرضخ لتهديد أو أخضع لوعيد، تزوجنا فهم راهنوا على فشلي مرتابين من نواياه وحقيقة مطامعه لكني وجدت في هذه الزيجة مكاسب أفضل من بقائي عاجزة محنطة في بيت أهلي تلتف حولي حيطان باردة وصرخات رجعها الصدى.
وقد رجحت كفة زواجي على حياة جرداء تأخذني إلى العدم، حلَّق (محسن) بي نحو جنة السعادة وهناء الحياة ولأول مرة أشعر بأنوثتي إذ تبدلت ملامحي وتجددت خلايا دمي وتدفق الماء إلى عروقي اليابسة ونضحت مساماتي العطشى ندىً وطراوة وسجدت لله شاكرة لأنه سبحانه أنصفني بعدما يئست من الحياة ونفذت كل السُبل، لم أكن أعلم أن الوعد كان بانتظاري، واحة تباغتني وأنا أسير في البيداء عطشى.
وتفانيت في حبه حتى الانصهار فيه ونسيت السنوات البغيضة التي تعكّر فرحتنا حينما تذكرنا أن لقاء ربيعه بخريفي محال.
عشت رضيّة بعشي الصغير وأيامي الساكنة، تمضي حياتي في رتابة مريحة أكتفي بظله العامر وحضوره الدافئ في ليل أستحضر نقيضه وأنا في حجرتي وحيدة وأمّ ظالمة تنام على جرحي.
حتى جاءني ذات يوم وصارحني أنه سيعيد طليقته لحاجة ابنه المريض بفشل كلوي إليه وقد فكر في السفر إليها لعلاج الصبي، تعكر صفوي وانخدشت مرآة حياتي وانحلّ الحبل المتين الذي وثّق لحمتنا.
في إحباط هتفت:
(فاجأتني!).
صمت محرجا.
قلت غاضبة:
(يبدو أنكما على اتصال دائم؟)
(طبيعي فبيننا ابن مريض).
قلت وفحيح أنفاسي يلتهب مع حرقة قلبي:
(خدعتني).
(لا لم أخدعك أبداً، بل أحبك ومتمسك بك).
سافر وتركني في لجة الحيرة والقلق، تأخذني الوساوس في كل اتجاه وشعرت بنفسي أهوى من جديد في قاع الوحدة والكآبة.
وتلاشت السعادة من أفق حياتي وحلّ الشقاء، فقد سافر وترك لي الوحشة والفراغ، الفراغ الذي جعلني أتقلب على جمر اللوعة أتضور إلى رشفة من رشفاته وشعرت بالحاجة إليه وإلى احتوائه الحميم، وأنفاسه التي تعبق بالشباب، فبُعده عني زرع داخلي قناعة راسخة أنني بدونه شريدة، ضائعة فلأقتنع بقليله وأقبل بزاده الشحيح، طلبت منه أن يأتي بزوجته وابنه ليقيما معنا في نفس البلد، جاء بهما واستأجر لهما شقة صغيرة، وهكذا عشت مناصفة وزوجته الأولى والغيرة تنهشني كلما خرج إليها أبقى طوال الليل ساهمة أفكر وكأنما وقعت في خديعة وصرت مطيّة لهدفه الخسيس وخُطة جهنمية رسمها بإحكام كيما يستولي على راتبي فقد انفضحت مآربه الخبيثة، وأبكي بكاءاً مريراً وأدمن التفكير الممض وأقرر الطلاق منه لأسترد كرامتي، حقدت عليه وكرهته كرهاً شديداً إذ أربأ بنفسي الساذجة وهي تغدو لعبة بين يديه قد استغل ضعفها وحاجتها كيما يحقق أحلامه.
وتنكشف الظلمة عن نفسٍ محطمة، مستهلكة، منهكة..
أعدّ الساعات لاستقباله وأنا عابسة الوجه غاضبة النفس، نافرة الروح، سأخلّص نفسي من قيده، سأتحرر من أسره، سأفلت من شباكه لكن لا أدري كيف يتبدد قراري بلحظة وينكسر عنفواني فور أن يدخل بيتي جامحاً، منفعلاً تمطر أشواقه فوق أرضي الجرداء فيخضرّ قلبي من جديد وينبض فؤادي بحبه وأستسلم لقدري مذعنة راضخة وكأنما حديث الليل كذبة تبددها الحقيقة!
وهكذا دواليك...
أتقلب بين قرار يختزل الشك والكره والريبة والرعب من شبح الوحدة وصفير الريح في شتاءات باردة وصمت موحش يغرس في النفس خنجر الموت في كل لحظة.
تابع القراءة

(( كبريـاء الرجُـل ))

(ثمة وخز في قلبي، لا أدري ما سببه)، هناك أشياء داخلنا تنبئنا بوقوع حدث ما، تشاغلت عن هذا الهاجس بإعداد بحثي للمؤتمر، فللقلب ساعة تذكيرية تنبهنا إلى أشياء ربما تناسيناها أو حاولنا نسيانها على الأقل.
ناداني (مختار) بينما هو يشاهد التلفاز:
((سوسن نتائج الانتخابات باتت وشيكة)).
جئت بفكر شاغل لم أتابع هذا الحدث لزحمة مشاريعي ولضيق وقتي.
جلست أشارك زوجي الأمسية وأصغيت إلى المذيع وهو يعلن أسماء المرشحين في المنطقة (......) شحب لوني وبردت أطرافي وخامرني قلق كبير.
انتبه زوجي وسأل بدهشة:
(ما بكِ؟ لستِ على ما يرام).
أبدد ارتباكي
(سباق أقدار يجعلنا في شغف لمعرفة الفائز).
خفق قلبي بشدة وكان قلقي فضَّاح لا يحتمل التضليل، أطلقت زفرة حارة اختزلت سنين عمري الماضية وقصة أرجأتها الأيام لتعود الآن بفصل جديد، فاسمه يتردد أمامي عندما يرتفع عدد أصوات الناخبين ويقترب من الفوز.
تخرج الذكرى من صمت السنين وتصحو من سباتها بعد أن نفضت عنها غبرة الأيام ويعود حنين جارف إلى قصتي معه حينما كتبناها في طلوع شبابنا على مقاعد الدراسة الجامعية حيث جمعتنا الحوارات الثقافية والمجاذبات الفكرية في تيارات تتآلف مرة وتتنافر مرة أخرى وميوله لمدرسة فكرية مضادة لأفكاري واختلافاتنا في وجهات النظر والحب المتراكم مع يومياتنا المشحونة بالعمل يتحطم فجأة على صخرة كبريائه.
يقترب فرز الأصوات من الجولة الأخيرة.
جذبني مختار إلى واقع كان قد خدرني وأسدل على الماضي أستار الفرقة والنسيان.
(ما بكِ شاردة؟).
(لا، كنت أفكر في بحثي).
وفي احتيال نهضت لأجلب علبة المحارم من الحجرة بيد أني مصغية بكل جوارحي إلى الذروة التي تجعلني في تماس مع الماضي.
وبرز اسمه ضمن المرشحين الفائزين (فيصل عبد الغفور) اختلجت كل ذرة في كياني واستنفرت مشاهد الماضي بأدق جزئياتها وكأنها حدث بالأمس، لا أعرف كيف أصف حالتي وأنا ألملم ذكرياتي المبعثرة وصهيل صوته يناديني من بعيد.
أطرقت في خجل:
(ولماذا أفكر بالأمس وقد طوته السنين).
(اليوم لستِ على م يرام، هل هناك ما يزعجك حبيبتي؟).
قال مختار وهو يدخل حجرة النوم.
(لا.. مجرد قلق، فالبحث شاق ومرهق ويشغل تفكيري).
داريت الحقيقة باضطراب.
التفت إليّ:
(أشعر بصداع، من فضلك ناوليني قرص بنادول).
وبفكر ساهم أفتح الدرج وأتحسس علبة البنادول بشكل آلي لأني أدمنت هذه الأقراص وغيرها من المسكنات لصداعي المزمن.
(خذ ما تبقى من العلبة).
الصوت الهادر من سنين الماضي يخترقني بشدة إذ لا أعرف كيف أجتاز كل منّا تجربته بعد مرارة الفراق والقرار الجاحد الذي اختاره فيصل مخرج لأزمتنا الخانقة، لأننا كنّا كثيراً ما نتحاور حتى نصل إلى نقطة عدم اتفاق تأخذنا إلى منطقة نائية نتيه فيها عن بعضنا بعض.
تمددت على سريري مرهقة وأرهف السمع إلى حفيف وريقات شجر الصفصاف في أوائل مارس (...19) حينما أعلن حبه ضمن مساحة ضيقة جمعتنا وأفراد القائمة المرشحة في انتخابات الجامعة، كانوا يعرفون أننا توأمة لا تقبل الانفصال وظروف العمل والبحث العلمي ورحلاتنا المشتركة غذّت فينا هذه المشاعر، كنت الأكثر ذكاءً وتفوقاً وكان الأقوى شخصية، لم يعبر لي عن حبه إلا ضمن إشارات مختصرة وسريعة فهو رجل عملي وديناميكي نشيط، أقف خلفه فخورة أدعم نشاطه وأساعده في البحث عن مصادر الكتب لأوفر عليه الوقت والجهد ولعلي كنت السبب في نجاحه في الدراسة، أكتب أبحاثه وألخص له المحاضرات التي يغيب فيها لإنجاز أعماله الأخرى، كان كالماكنة تدور وتطحن بآلية قاسية وشعرت أنه قد نسيني في غمرة انشغالاته فانطفأ داخلي إحساسي بذاتي، لم أكن طالبة عادية في الكلية بل متميزة ومحط اهتمام الأساتذة لكنه أشعرني بالمهانة وكأنه لا يقبل أن أضيء إلا من خلال نوره المنعكس علي... فتجاهلني مرات عدة واتخذ قرارات استبدادية باطشة، كسر أجنحتي كي لا أحلّق دونه وحوّلني إلى كائن تابع وألغى إرادتي وشلّ كياني وهمّش شخصيتي، قالها لي وهو يمرّ كالريح أمامي سريعاً، عنيفاً (اقبليني كما أنا يا سوسن وسأسعدك دائماً).
يعني أن أسلم له قيادي مذعنة راضخة وكنت مسحورة بشخصيته المهيبة، مفتونة برجولته الفخمة، هذا اللون من الرجال الذي يغزو قلب المرأة دون استئذان، وعقلي المتمرد كان يضج متقلباً، يرفض الاستسلام قهراً دون قناعات حتى للرجل الذي أحببت.
وعندما اقتربنا من سنة التخرج نضجت مداركنا واتسعت آفاقنا الفكرية فما عدت كما الأمس مستسلمة وهو يضغط عليّ من كل اتجاه كيما يسيرني ضمن نهجه وفكره الذي لم يعد يستهويني ويقنعني كما حدث في باكورة لقاءنا.
فأنا معتزّة بشخصيتي، بفكري، لن أقبل أن أكون أسيرة لإرادته.
غضب (إنكِ لا تحبيني يا سوسن).
(فيصل أرجوك لا تضخم الأمور).
هتف نافراً:
(أشعر دوماً بجفافك واعتراضك الغير مبرر).
(لأنك تعمل باستمرار على إلغاء شخصيتي).
(شخصيتك يجب أن تذوب في شخصيتي إذا كنتِ تحبيني).
أجفلت:
(آسفة جداً، لست حلمك، لست أمنيتك، ابحث عن جارية من جواري هارون الرشيد).
(وما الضير إذا كانت الجارية تعشقني).
(أنت مغرور وجاحد).
(وأنتِ جافة مجردة من الأنوثة).
استفزني وطعنني في كرامتي، صرخت ملء مشاعري:
(وأنت وقح، عديم الثقة في نفسك).
تسمّر في مكانه وكأن صاعقة هوت على رأسه فأردته نُثار... تركني ومضى دون أن ينبس بحرف.
ولم أكن أعرف أن مشاعره اُغتيلت وروحه قُتلت، فقد اختفى من حياتي وانتظرته أيام لعل جرحه يبرأ ويعاوده الحنين.. اتصلت به وكان تلفونه مقفل، حاولت استمالته عبر الوسطاء من الأصدقاء لكنه انغمر في صمته وأخذ يتباعد دون أمل في رجعه ولوعتي عليه تطحنني طحناً وتكوي كل منابت إحساسي بل تقلعني من جذوري وتتركني في فضاء الحيرة مضطربة هائمة، شعرت حينذاك بقيمته، بحبه بلونه المميز، بكل الجزئيات الرائعة التي تركت فينا أحلى الذكريات، كتبت له رسائل الاستعطاف والاستغفار، وبعثت له الزهور لأستميل عاطفته، وأستثير حنينه، حتى كان يوم التخرّج والكل مستعد للاحتفال، شاهدته يجلس في الصف الأول من الطلبة خفق قلبي بشدة وتمنيت لو أصرخ أمامه معلنة أمام العالم كله أسفي وندمي لكنه أبداً صاد، معرض، قد نفر قلبه دون رجعة.
وبقيت طوال هذه المدة أفكر فيه وفي موقعي في قلبه لعله نسيني أو طواني ضمن الصور التي يزدريها، فالطريق أمامي مقفر والباب مؤصد والأمنية مستحيلة.
انفض الحفل ولبثت في مكاني أنتظر لعله يرمقني بنظرة أخيرة استقرئ فيها قدري أو يلتفت إليّ ببعض الحنين، أطرق وهو في طريقه إلى الباب ولكني اعترضته بجرأة ووقفت أمامه أتحدى صمته وأخترق متراسه المزعوم.
(مبروك).
تنهّد وعيناه تداريان حباً مضطهد في أعماقه.
(وأنتِ مبروك أيضاً).
وفي استجداء مذلّ:
(أهكذا تلقيني على الرصيف وترحل بعيداً).
رمقني بنظرة جامحة حطمت كل معاقل صمودي وظننت أنه قد احتفظ بخط الرجعة.. إذ شملني حبه بومضة عابرة أرخت أعصابي فابتسمت متفائلة:
(كل شيء سيعود كما كنّا نحلم يا فيصل).
أطلق زفرة حارة من كبد محرور ثم قال وهو في طريقه إلى الانصراف:
(هذا قرار عاقل اتخذته لصالحنا).
كدت أن أهوى لشدة الصدمة.. صحت في صوت مذبوح:
(فيصل؟).
(عن إذنك فخطيبتي بانتظاري).
احتال علىَّ بهذه الأكذوبة ليهرب مني.. وكيف يفرّ الإنسان من دمه..؟!
تلفَّت حولي كالبلهاء أستعلم من أصحابه عن حقيقة خطبته بعد أن نزفت آخر قطرة من كرامتي وكبريائي.
أطرقوا في استياء إذ كان مصرع حبنا حدث جلل تناهبته طلبة الجامعة بالتحليل والتوثيق.
وتركني فيصل ريشة في مهب الريح أصارع قدراً مرعباً لوحدي بعد أن كان لي العون والسند وعلمت أنه سافر إلى (لندن) لإعداد الماجستير بعد أن تزوج من إحدى قريباته، وشعرت بالفراغ الكبير، الفراغ الذي يتركه رجل كان يملأني حتى النخاع وأحسست بالهزيمة النفسية وعمق الجراح وحاولت الخروج من شرنقة الوحدة بالزواج من أول رجل يطرق بابي لعلي أعبر محنتي بصبر وجَلَد.
ودخل حياتي (مختار) ذلك الرجل اللين الهين الذي استطعت أن أتعايش معه بسلام وصفاء، ودفنت الماضي بكل صوره وعذاباته، أقمع وجعي بإدماني العمل ومغالبة شوقي المستعر حينما تهب الذكرى هبوباً عاصفاً في أيام كثيرة، إذ بقي (فيصل) ذلك الرمز الحلم الذي ترك داخلي جُرحاً عميقاً وحفر في أعماقي بصمة لا تمحوها السنين أبداً، تطل عليّ في ليالي وحدتي حينما يقترب زوجي نحو مساحة صمّاء يغمرها جليد الرتابة والملل لكنها أخذت تتلاشى مع السنين كلما انطوت صفحة من صفحات زواجي.
دق جرس المنبه، فالساعة الآن الخامسة صباحاً.
نهضت مستعدة لصلاة الصبح وجلست على سجادتي أتضرع إلى الله عزّ وجل أن يساعدني في مقاومة الذكرى ومغالبة سطوة الماضي بصولة روحيّة تهزم ضعفي، وإلا جرفني الحنين إلى هاوية الضياع.
التفتُ إلى مختار وهو يدخل إلى الحمام ليتوضأ وأقنعت نفسي أنه واقعي الذي ينبغي معايشته بتقبّل واستحسان والحقيقة التي لا تقبل الشك.. ففيصل كان حلماً وانقضى وحديثاً من أحاديث الجوى.
تابع القراءة

رسالة من الله

همسة: من يثق بالله فهو حسبه

كم بقى له من أيام في هذه الدنيا؟ شهر؟ شهران؟ المدة قصيرة جداً ومحدودة، المهم أنه بانتظار الأجل، فليفكر الآن بمظالم العباد، بحقوق الناس، بعباداته، انقضى عمره وهو حبيس المشفى.
أقفل دفتر المذكرات الذي لازمه منذ فترة فور أن دخلت الممرضة..
"سيد حسام فلأفحص الحرارة والضغط".
قال ولسانه يقطر مرارة
"أنا جثة هامدة لا حرارة فيها ولا دم".
استنكرت
"أعوذ بالله، ضع ثقتك به سبحانه فهو مقدر الأعمار".
"وهل تعتقدين أن مصاباً بالسرطان مثلي له أمل في الحياة".
"لو كان عندك إرادة لهزمت الموت".
خرجت الممرضة وهي تدعوه قائلة
"يمكنك الآن أن تخرج إلى الحديقة لتتمشى".
"حسنٌ سأفعل".
تلفع حسام بالروب دي شامبر وهو يتحاشى النظر في المرآة فقد تجرد رأسه من الشعر ونحل جسده حتى تقلص إلى نصف حجمه، قطع ردهات المشفى الموغلة في العتمة حتى أدرك الباب الخارجي الذي يفضي إلى الحديقة.
كان الطقس مشمساً والنهار مبهجاً تنبعث أصداء الحياة في كل ركن وزاوية، العشب الأخضر المتناسق في المساحات الممتدة، الزهور النضرة تفترش الأصص الحجرية، احتشد المرضى حول المناضد الخشبية في مجاميع صغيرة، جلس حسام قريباً من ثلة نساء قد انغمرن في حديث خاص، ربما شعر بحاجة إلى هذا النوع من الثرثرة لإنعاش مزاجه.
اختلس إليهن النظر محدثاً نفسه:
لا أعتقد أنهن مرشحات للموت فعلامات الحياة بادية عليهن فهذه تحدق في المرآة مبتسمة وتلك منشرحة الأسارير، انبسطن في أريحية وكأنما يحلقن في دنيا أخرى، لمح في وجوههن الشاحبة ألقاً نورانياً مريحاً وعندما فطنت إحداهن إلى تطفله أشارت إليهن أن يصمتن لكنه اعتذر من فوره
"آسف على إزعاجكن سأغادر المكان".
تجول في الحديقة مستأنساً بألوان الزهور اليانعة بيد أنه تعب بشدة فاتكأ على جذع شجرة وارفة الظلال وأطلق العنان لذاكرته من قبل أن يدخل المشفى حيث ألق شبابه، وحيوية جسده، كان هاوياً لركوب الخيل وسباق السيارات ورث عن أبيه مالاً لا يُحصى عدده ولا يقاس حجمه من خير وفير، نهم من دنياه ما لذ وطاب شرهت نفسه إلى التدخين فأدمنه وتراخى في صحته حتى داهمه سعال مزمن اضطره إلى معايدة الطبيب والذي فاجأه بالطامة حيث تبين في المعاينة استفحال السرطان في رئتيه.
تنهد بحرقة وهو يرمق الأفق بطرف حزين وتذكر وقتها أن الطبيب احتجزه في المشفى منذ شهور لعل في استبقائه يحتوي الداء.
استحضر قامته الفخمة وشبابه الأزهر وقد افترسه الوحش السرطاني فنهش لحمه وبدد طاقته فإذا به شبح مرعب وجسد منخور وعينان منطفئتان ترنوان في المجهول بإنكسار، وأمه الملتاعة حينما أذهلتها الحقيقة المرة طافت حول قبور الأولياء تنحر القرابين نذوراً لله لعله سبحانه يمن عليه بمعجزة الشفاء وشقيقه الأكبر الذي لم يفق بعد من أثر الصدمة، القصر الشاهق المزدان في الأنوار حينما يفترش الليل أجنحته على الدور الساكنة... انطفأ بعد أن غادره حسام بمرحه وظرفه بقفشاته الصبيانية حينما يلاطف أمه وأخاه ومائدة الطعام يوم أن كانت تغرد بصباه تصمت في كآبة ووحشة، أمه التي نحل عودها تفترش سجادة الصلاة متضرعة لعل الله يبعث في جسد ابنها الروح، لو أنها تهب له عمرها، حياتها، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
فهل خطر بباله يوماً أن الأقدار ستركنه في العتمة وتهمشه حتى النسيان، قد هجره الأصدقاء ممن تزلفوا إليه طمعاً في ماله ونعيمه، لِمَ لا يستعد الإنسان لطوارئ الزمن لقدر قد يباغته بمرض أو حادث سوء، لِما هذه الغفلة وكأن الحياة أبدية لا نهاية لها ولا ختام، والأجل قاطع الطريق يداهم الإنسان في وقت انتشائه برحيقها العذب، هل توقع حسام أن شبابه سيُدفن وحيويته ستُقهر ليتمهل في شراهته للدنيا، لو أنه تعبأ بالإيمان، واستعد واثقاً بالله لهزم ضعفه وتوكل على ربه واستعذب المحنة بصبر وعزم بيد أنه يأس واستغرق في المرض بانتظار الموت...
انحدرت الشمس في المغيب فأخذ المرضى ينسحبون إلى الداخل وعندما عاد حسام إلى حجرته، أقبلت عليه الممرضة تستأذنه "الدكتورة حورية ستعاينك بعد قليل".
انتهز الفرصة فشرع يوثق في مذكراته ما يؤنسه في وحدته ولكنه دس الدفتر تحت الوسادة عندما دخلت شابه عشرينية حجرته، قدمت نفسها بثقة
"الدكتورة حورية المتدربة الجديدة في هذا الجناح"
سُر بطلتها الباشة
"أهلاً وسهلاً"
لم تكن الدكتورة حورية ذات نمط تقليدي فقد جلست تسامره بشفافية وانسجام فاستأنس بحديثها العذب، قالت مشيرة بأصبعها إلى فوق
"أنظر دائماً إلى الأعلى".
أبصر حسام مستفهماً
فأردفت
"عندما نتحلى بهمة عالية نرى الأشياء حولنا بحجمها الصغير، فلا تدع عيناك شاخصتان في مدارات الحياة المحدودة لأنك ستغرق في التفكير السلبي وتظن أن الموت سيبلعك".
- أنت فيلسوفه لا طبيبة
"لا فرق بينهما"
"كيف؟"
"الطبيب يهب الحياة لجسدك، والفلسفة تكشف لك الطريق الإيجابي في التفكير".
"لكن الحياة بيد الخالق"
"نعم لكن الله خلق داخلك عملاقاً يهزم المستحيل".
وأطرقت هنيهة ثم استطرت بعد تفكير
"في الجامعة درسني أستاذ قدير كان مصاباً بسرطان القولون وكان ميئوساً من شفائه لكنه استطاع أن يهزم المرض بإيحاء من ذاته القوية وإرادته الصلبة.
دهش حسام
"وعاش طوال هذه السنين؟"
"نعم"
تبرعم الأمل في روحه الجدباء وطفق يفكر مستبشراً بالغد الآتِ بينما مضت حورية في حديثها
"المهم أن تغذي عقلك الباطن باستمرار من أنك ستشفى وستخرج من المشفى عاجلاً وتمارس حياتك بشكل طبيعي".
ثم خرجت مبتسمة بعد أن ألقت من سنا روحها فيوضات الحياة حوله.
والتفت بعد رحيلها إلى حجرته وقد تحولت مكوناتها المادية إلى كائنات حية تتنفس وتفيض بالحياة، التقط الدفتر المدفون تحت الوسادة وشرع يكتب بقلم باسم "هل يمكن أن يولد الأمل من رحم الشقاء؟ هكذا حدثتني حورية الجنة التي أرسلها الله عز وجل إلي لتبشرني بالحياة وقدمت لي البراهين والإعجاز الإلهي فلما تنحدرين يا روحي إلى العدم؟!
وتجاهل حسام الزمن والتاريخ المشؤوم وتذكر أن لله قدرة وجبروت فقد أحيا سبحانه العظام وهي رميم، قلب عصا موسى إلى ثعبان جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم فهل يعجز عن شفاء مريض بائس مثله؟!
لازال يقرأ في المصحف الكريم الذي أهدته إليه حورية فاستأنس بكلمات الله النورانية ووعوده ووعيده وحكمه ومواعظه فكان يتدبر في مضامينها الهادفة التي سرت في شرايينه كالدم فشفته من ألم اليأس الذي نخر في روحه فأرداها ميتة فرضى بقدره واستسلم لأمر الله خاضعاً، طاف شهر، شهران وهو منكب على القرآن حتى انطوت سنة كاملة وهو منكفئ في محراب الوحدة يعرج بروحه نحو مدارج لا محدودة فأفاق ذات صباح على صوت أمه وأخاه وقد سقطا على رأسه تقبيلاً والفرحة تختلج في صوتيهما "لقد تعافيت يا حسام فالطبيب أذن لك بالخروج".
ورفعت الأم كفيها إلى السماء داعية "الحمد لله أن استجاب ربي دعائي وحقق نذري".
أعد حقيبته بينما ذهب أخوه ليجهز أوراق الخروج من المشفى وخرج في الردهات يبحث عن الدكتورة حورية فعلم أنها تركت المشفى منذ فترة ولا أحد يعلم إلى أين انتهى بها المطاف...
استوقفته هذه المحطة العارضة في حياته متأملاً فأيقن أنها رسالة من الله.
تابع القراءة

زوجـة صـديقـي

همسة: من يقرأ المرأة قراءة واعية يمتلك قلبها للأبد.

فرقهما الزمن، وأخذتهما الحياة في دروب شتات، غادر (سليم) إلى أمريكا ليدرس علم الاقتصاد، بينما التحق (علي) في كلية الهندسة، جمعهما (الفيس بوك) صدفة فقررا أن يلتقيا في المقهى المجاور لمدرستهما القديمة.

جلس (سليم) في إحدى زوايا المقهى ينتظر (علي) وعيناه ترصدان الباب بلهفة، يتذكر (علي) زميله أيام الثانوية بقامته النحيلة وجبهة عالية وشت عن عبقرية مضطهدة لم تنفذ بعد إلى حيز التجربة.

صرير الباب يتواطء مع ضجره لكن هذه المرة لم يخب رجاؤه، لقد دخل (علي) وعيناه تحومان في المكان بحثاً عن (سليم) حتى وقعت على الشاب البدين الذي تطفر حمرة الحيوية في خديه النضرين، تعانقا طويلاً ثم أخذا مقعديهما.

علق سليم باشا:

(صورتك في الفيس بوك مختلفة عن حقيقتك تماماً).

(لقد كبرنا يا عزيزي وغزانا الشيب).

ثم مازح صاحبه:

(وأنت أيضاً يا سليم لم تفلت من قبضة الزمن فقد فضحتك صلعتك!).

وبحركة لا إرادية تلمس سليم صلعته وهو يحمر:

(للوراثة حق يا صاحبي).

سأل علي: أين تعمل الآن؟

- (تخرجت من أمريكا وأعمل في إحدى الشركات، وأنت؟).

- (أنا مهندس في شركة البترول).

ثم طلبا القهوة وبعض الحلوى وهما يستطردان في استحضار الذكريات أيام المدرسة وزملاء الدراسة وظروف الحياة وأوضاع البلد السياسية حتى انتهيا إلى الجانب الخاص الذي يحذره الإنسان دائماً لكنه ودون أن يعي يرجع إليه كنقطة مركزية في دنياه، سأل سليم صاحبه وبدون مقدمات:

- (وكيف رأيت الزواج؟).

انكمشت ملامح علي:

- (لا تذكرني بأتعس قرار اتخذته في حياتي).

دهش سليم: لماذا؟

- ( لأن لي زوجة أعوذ بالله منها، نكدية، عصبية، تكثر من الصراخ بدءاً من استيقاظها صباحاً وحتى ساعة النوم، لا تهدأ ولا تستكين، تنزل السلم وتصعده مئات المرات في اليوم الواحد، لا تكل ولا تمل، تصرخ بالأولاد وتتشاجر مع الخادمة، وتعاتبني، وتثرثر في الهاتف، إنها مزعجة إلى حد كبير، عندما تهدأ بعض الشيء لتسامرني في سهرة شاعرية سرعان ما تعود إلى طبيعتها فتقفز ذاهبة إلى المطبخ لتطفئ الموقد، أو لتجهز قالب الحلوى لابنها الصغير، زوجتي تتعبها الراحة ويرهقها النوم كأنها دينامو يعمل بطاقة جبارة وأنا بالمقابل متهم بالكسل والخمول والإهمال، أنا واثق من وضعي الطبيعي لكنها تعمل فوق معدلي بآلاف المرات.

قهقه سليم حتى طفرت الدموع من عينيه.

بهت علي:

- (لك الحق أن تضحك يا عزيزي لأنك لم تجرب حالة الطوارئ المزمنة في بيتي).

- (بالعكس يا علي فلتحمد الله أن وهبك زوجة متوقدة، حيوية، نشيطة، فهذا النوع من النساء لا يشيخ أبداً لأنها كالشمس تلتهب ناراً ونوراً فلن تخبوا معها أبداً، المصيبة عندي يا صاحبي!).

بُغت علي:

- (عندك؟).

تنهد سليم وهو يلملم أفكاره:

- (نعم يا علي، فزوجتي كائن محنط، جسد هامد، وكيان ميت، خاملة، عاطلة، ذات عزيمة خابية حتى وهي تبادلني الحديث تجتر الكلمات من حبال صوتها المرتخية بمشقة فأتململ منها لبطئها، لفتورها، أشعر كأني أغطس في ماء بارد، ساعات نومها أكثر من صحوها فالخادمة تدير البيت وترعى الأولاد وتطهي الطعام، تزعجني تلك الفوضى، أثور عليها وأتعمد تجريحها تتجاهلني وكأن الأمر لا يعنيها، بيتي بارد، كئيب، ممل، لأن ربة هذا البيت منطفئة فانعكس ظل كآبتها على كل من في البيت، تميل إلى الصمت وكأنها تمثال شمع، تأوي إلى فراشها في حدود العاشرة مساءً فتأتيني الخادمة لتتفقدني ما إذا كنت أحتاج إلى شاي أو قهوة، وقد تجرأت ذات ليلة فسألتني- لمِا أنت حزين يا سيدي؟ وهل بإمكاني مساعدتك؟- تخيل أن الخادمة تتحسس مشاعري عن قرب بينما زوجتي تهملني!!).

دهش علي:

- (يا للهول، إنها نقيض زوجتي تماماً).

- (أنت في نعمة يا علي وزوجتك مدهشة).

وتناهت في ذهن (علي) فكرة طريفة:

- (أنهما متطرفتان، زوجتي في نشاطها الوافر وزوجتك في خمولها الشديد، فماذا لو أذبنا خواصهما في بوتقة لكان الناتج مذهلاً).

- علق سليم: (ونقسم الناتج على اثنين نصفه لي والآخر لك).

وعاد سليم يسأل:

- (هل تزوجتها بعد قصة حب أم كان زواجاً تقليدياً؟).

- علي: (زواج تقليدي فقد خطبتها أمي بحكم اختلاطها بالعائلات المحافظة، فأنا لم يسبق لي أن مررت بتجربة حب لأني لا أؤمن بالحب أصلاً).

غام وجه سليم فانبرى يقول:

- (أتدري أني أحببت زوجتي قبل الزواج، فقد عرفتها جذابة في غموضها، ساحرة في هدوئها، مثقفة ذات عقلية راجحة، لم أتوقع أنها ستتغير بعد الزواج وستنطفئ بهذه السرعة، حتى أني أحياناً أشك ما إذا كانت صادقة في حبها لي، فالمرأة التي تحب زوجها تجتهد في إرضائه وإسعاده وتغار عليه إن أبدى إعجابه بامرأة غيرها).

قاطعه علي:

(الغيرة؟! فحدث ولا حرج فزوجتي بركان غيرة حتى أني أضطر عندما أخرج من البيت أن أقفل هاتفي حتى لا تلاحقني باستجواباتها المزعجة، والويل لي إن عدت إلى البيت فاقد شهيتي للعشاء لأنها لن تغفر لي أبداً هذه الجريمة إذ تحاصرني بأسئلتها الاستفزازية كما لو كنت آتٍ من موعد غرام قد أشبعتني الأخرى لذيذ الطعام).

(يا سليم أنا من أحسدك على زوجتك لأنها لم تقيدك بحبالها الغليظة وتطاردك بشكوكها المريضة وتتصيد عثراتك لتدينك بها، أشكر الله فأنت حر طليق).

استدرك سليم: (ألا تعتقد أن هذا من الحب؟).

سخر علي:

(حب؟ لا أريد هذا الحب، أريد أن أعيش كأي رجل طبيعي، أريد حريتي التي حرمت منها، فزوجتي قيد يشعرني بالتعاسة).

تمنى (سليم) في قرارة نفسه لو كانت زوجته بهذه الخواص بيد أنه كتم ذلك الإحساس خشية افتضاح إعجابه.

تساءل علي:

(ما بك صامت؟).

قال سليم بعد تفكير:

(سأكشف لك سراً طالما عذبني).

دنا علي بالقرب من سليم وهمس: (خيراً إن شاء الله).

- (لقد أخطأت مع الخادمة فقد قصدت ولأكثر من مرة غوايتي، ربما كان لحضورها الطاغي في حياتي موقع خاص، ففي كثير من الأحيان أقبل على زوجتي ملهوفاً لكن جفاءها يطفئ رغبتي فيها، كم تمنيت لو ألقي بنفسي في فيضان أنوثتها حتى الغرق لكن شواطئها الجليدية تصدم موجتي العارمة فأرتد محبطاً فاحتوت (سالي) هزيمتي واستولت عليّ بحصارها الدائم بالرغم أنها لم تكن جميلة أو يرشح منها ريق أنوثة، يحدث أن تشعر بفحولتك تراق بمهانة وليس حولك إلا الشيطان يتحفز لتلبيتك حتى السكرة).

استدرك علي مأخوذاً:

- (ألم تعرض زوجتك على طبيب فلربما تعاني من مرض عضوي أو نفسي فمن غير المعقول أن يعطل خمولها كل جوانب حياتها ويشل حراكها).

أطرق صامتاً ثم واصل:

- (أخشى أنك تبالغ يا سليم كي تبرر علاقتك بالخادمة).

انتفض سليم:

- (أعوذ بالله ليس لي علاقة بها إطلاقاً إنما كانت لحظة ضعف وانقضت، وقد ازدريت نفسي بعدها وقرفت منها وتمنيت لو أطردها من البيت لكن ليس لي بديل لرعاية الأولاد).

- (إذن خذ زوجتك إلى طبيب).

سخر سليم:

- (أنها تطير بخفة الفراشة إلى الحفلات والولائم لاستعراض أناقتها، فعندما تُدعى إلى هذه المناسبات يدب فيها النشاط فجأة وتتهندم بأفخم ما عندها من زينة وتهرب بحيوية الغزال خارج البيت).

- (أنا متأكد أن ثمة حلقة مفقودة بينكما وعليك أن تستشير أخصائي نفسي ليرشدك إلى مفاتيح شخصيتها، أشعر أنها تطوي أمراً غامضاً لم تتفهمه بعد).

تنهد سليم وتابع:

- (فكرت في طلاقها إذ لم يعد هناك مبرر لبقائها في حياتي).

- (لا تتسرع يا عزيزي حاول إصلاحها، توجيهها، ألم تصارحها بالمشكلة؟).

- (نعم صارحتها فردت بكل برود أن هذه شخصيتها ولن تتغير وإذا لم تعجبني فبإمكاني أن أتركها).

صمتا وهما يتبادلان النظر حتى انبرى علي قائلاً بعد تردد:

- (يبدو أنها لا تحبك).

- (وهذا ما تأكدت منه).

غمغم علي وهو يفكر:

- (المرأة لغز كبير، تبدر منها تصرفات غير متوقعة أحياناً).

استرسل سليم في حديثه:

- (العلاقة الزوجية التي ينقطع فيها التواصل بين الطرفين علاقة ميتة، فنحن لا نتحدث أبداً ولا نتشاجر ولم أسمع لزوجتي صراخ أو تذمر، فالزوجة التي تحتج وتصرخ وتعتذر إنما هي تريد زوجها، تريد أسرتها، حريصة أن تستقيم الأمور بالشكل الذي تعتقده صائباً وإن كان أسلوبها فظاً وغليظاً ففي النهاية تذكرك أنها تحبك وتلاحقك لأنك جوهرة ثمينة تخشى أن تخطفها الأخريات، فهذه نيتها، ضميرها، قد تخنقك، تستفزك، تبتز عواطفك، كل هذه الحيل تدور حول معنى واحد (هو الحب)، أنت لا تشعر بقيمة زوجتك يا علي لأنك مشبع، متخم، لا تعرف قدرها، بالضبط كمن لا يعرف قدر عينيه لاعتياده عليهما لكنه لو فقد بصره لأدرك أنه مات في هذه الحياة، اسأل من رقد على سريره دون لحاف كيف يرتجف من البرد، بينما تتلحف بلحافك لتدفأ، أيهما تفضل يا علي!).

أطرق علي وهو يرد بصوت خابٍ:

- (أكيد اللحاف الدافئ).

واسترسل سليم موضحاً:

- (المرأة إذا لم تدفئ زوجها وتحميه من برد الوحدة وصقيع الوحشة لا قيمة لها في حياته، لا أهمية لها في وجوده أصلاً حتى لو كانت صارخة الجمال، مثقفة، فأنوثتها الدافئة هي التيار الذي يسري في نسيجه ولحمه وعروقه ودمه فينبت في كيانه الحب ويتأصل مع الأيام فتأتي أخطاءها العرضية وزلاتها الغير مقصودة منغصات مزاجية يمكن أن تُغتفر، فالمرأة سكن الرجل والرجل سكن المرأة وهي ثوبه الساتر كما هو ثوبها الساتر كما يقول الخالق عز وجل (هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ)، هذا الذوبان والانصهار يعطي لحياتك وهجاً ومذاقاً فإذا لم تتحقق هذه الكيميائية كان لزاماً على الزوجين أن ينفصلا).

استعاد علي وهو يصغي باهتمام صورة زوجته، بإحساس مفعم، وبنظرة استكشافية، فالتهب الشوق في قلبه وتمنى لو يضمها الآن ملء صدره، تفاجأ بسليم يقف مستأذناً وهو يلقي نظرة خاطفة على ساعة المقهى:

- (أعتذر منك فإبني ينتظرني في النادي).

صافحه بحرارة:

- (كم سعدت بلقائك عزيزي وبخبرتك المدهشة في الحياة وأتمنى أن نتواصل).

- (بالتأكيد).

وافترقا كلٌ إلى غايته، وكانت غاية علي أن يشتري لزوجته باقة ورد، فقد حطم النظارة السوداء التي جنحت به إلى السلبية والسوداوية في استقراء شخصية زوجته البديعة.

دخل البيت والابتسامة تشرق في وجهه، نادى زوجته وهو يشع ابتهاجاً:

- (غفران، غفران).

أقبلت غفران ودبيب قدميها القويتين وهي تقطع السلم يُضحكه، فقد استرجع حديث سليم.. (تذكر أنها امرأة حيوية!).

بحلقت في الورد مندهشة.

بادر علي:

- (إنها تعبير عن تقديري وحبي).

سألته مرتابة:

- (ماذا فعلت لتغطي ذنبك بهذه الحيلة؟).

هزّ علي رأسه مردداً:

- (لا حول ولا قوة إلا بالله).
تابع القراءة