.

.

جديد

الأحد، 27 يونيو 2010

زوجـة صـديقـي

همسة: من يقرأ المرأة قراءة واعية يمتلك قلبها للأبد.

فرقهما الزمن، وأخذتهما الحياة في دروب شتات، غادر (سليم) إلى أمريكا ليدرس علم الاقتصاد، بينما التحق (علي) في كلية الهندسة، جمعهما (الفيس بوك) صدفة فقررا أن يلتقيا في المقهى المجاور لمدرستهما القديمة.

جلس (سليم) في إحدى زوايا المقهى ينتظر (علي) وعيناه ترصدان الباب بلهفة، يتذكر (علي) زميله أيام الثانوية بقامته النحيلة وجبهة عالية وشت عن عبقرية مضطهدة لم تنفذ بعد إلى حيز التجربة.

صرير الباب يتواطء مع ضجره لكن هذه المرة لم يخب رجاؤه، لقد دخل (علي) وعيناه تحومان في المكان بحثاً عن (سليم) حتى وقعت على الشاب البدين الذي تطفر حمرة الحيوية في خديه النضرين، تعانقا طويلاً ثم أخذا مقعديهما.

علق سليم باشا:

(صورتك في الفيس بوك مختلفة عن حقيقتك تماماً).

(لقد كبرنا يا عزيزي وغزانا الشيب).

ثم مازح صاحبه:

(وأنت أيضاً يا سليم لم تفلت من قبضة الزمن فقد فضحتك صلعتك!).

وبحركة لا إرادية تلمس سليم صلعته وهو يحمر:

(للوراثة حق يا صاحبي).

سأل علي: أين تعمل الآن؟

- (تخرجت من أمريكا وأعمل في إحدى الشركات، وأنت؟).

- (أنا مهندس في شركة البترول).

ثم طلبا القهوة وبعض الحلوى وهما يستطردان في استحضار الذكريات أيام المدرسة وزملاء الدراسة وظروف الحياة وأوضاع البلد السياسية حتى انتهيا إلى الجانب الخاص الذي يحذره الإنسان دائماً لكنه ودون أن يعي يرجع إليه كنقطة مركزية في دنياه، سأل سليم صاحبه وبدون مقدمات:

- (وكيف رأيت الزواج؟).

انكمشت ملامح علي:

- (لا تذكرني بأتعس قرار اتخذته في حياتي).

دهش سليم: لماذا؟

- ( لأن لي زوجة أعوذ بالله منها، نكدية، عصبية، تكثر من الصراخ بدءاً من استيقاظها صباحاً وحتى ساعة النوم، لا تهدأ ولا تستكين، تنزل السلم وتصعده مئات المرات في اليوم الواحد، لا تكل ولا تمل، تصرخ بالأولاد وتتشاجر مع الخادمة، وتعاتبني، وتثرثر في الهاتف، إنها مزعجة إلى حد كبير، عندما تهدأ بعض الشيء لتسامرني في سهرة شاعرية سرعان ما تعود إلى طبيعتها فتقفز ذاهبة إلى المطبخ لتطفئ الموقد، أو لتجهز قالب الحلوى لابنها الصغير، زوجتي تتعبها الراحة ويرهقها النوم كأنها دينامو يعمل بطاقة جبارة وأنا بالمقابل متهم بالكسل والخمول والإهمال، أنا واثق من وضعي الطبيعي لكنها تعمل فوق معدلي بآلاف المرات.

قهقه سليم حتى طفرت الدموع من عينيه.

بهت علي:

- (لك الحق أن تضحك يا عزيزي لأنك لم تجرب حالة الطوارئ المزمنة في بيتي).

- (بالعكس يا علي فلتحمد الله أن وهبك زوجة متوقدة، حيوية، نشيطة، فهذا النوع من النساء لا يشيخ أبداً لأنها كالشمس تلتهب ناراً ونوراً فلن تخبوا معها أبداً، المصيبة عندي يا صاحبي!).

بُغت علي:

- (عندك؟).

تنهد سليم وهو يلملم أفكاره:

- (نعم يا علي، فزوجتي كائن محنط، جسد هامد، وكيان ميت، خاملة، عاطلة، ذات عزيمة خابية حتى وهي تبادلني الحديث تجتر الكلمات من حبال صوتها المرتخية بمشقة فأتململ منها لبطئها، لفتورها، أشعر كأني أغطس في ماء بارد، ساعات نومها أكثر من صحوها فالخادمة تدير البيت وترعى الأولاد وتطهي الطعام، تزعجني تلك الفوضى، أثور عليها وأتعمد تجريحها تتجاهلني وكأن الأمر لا يعنيها، بيتي بارد، كئيب، ممل، لأن ربة هذا البيت منطفئة فانعكس ظل كآبتها على كل من في البيت، تميل إلى الصمت وكأنها تمثال شمع، تأوي إلى فراشها في حدود العاشرة مساءً فتأتيني الخادمة لتتفقدني ما إذا كنت أحتاج إلى شاي أو قهوة، وقد تجرأت ذات ليلة فسألتني- لمِا أنت حزين يا سيدي؟ وهل بإمكاني مساعدتك؟- تخيل أن الخادمة تتحسس مشاعري عن قرب بينما زوجتي تهملني!!).

دهش علي:

- (يا للهول، إنها نقيض زوجتي تماماً).

- (أنت في نعمة يا علي وزوجتك مدهشة).

وتناهت في ذهن (علي) فكرة طريفة:

- (أنهما متطرفتان، زوجتي في نشاطها الوافر وزوجتك في خمولها الشديد، فماذا لو أذبنا خواصهما في بوتقة لكان الناتج مذهلاً).

- علق سليم: (ونقسم الناتج على اثنين نصفه لي والآخر لك).

وعاد سليم يسأل:

- (هل تزوجتها بعد قصة حب أم كان زواجاً تقليدياً؟).

- علي: (زواج تقليدي فقد خطبتها أمي بحكم اختلاطها بالعائلات المحافظة، فأنا لم يسبق لي أن مررت بتجربة حب لأني لا أؤمن بالحب أصلاً).

غام وجه سليم فانبرى يقول:

- (أتدري أني أحببت زوجتي قبل الزواج، فقد عرفتها جذابة في غموضها، ساحرة في هدوئها، مثقفة ذات عقلية راجحة، لم أتوقع أنها ستتغير بعد الزواج وستنطفئ بهذه السرعة، حتى أني أحياناً أشك ما إذا كانت صادقة في حبها لي، فالمرأة التي تحب زوجها تجتهد في إرضائه وإسعاده وتغار عليه إن أبدى إعجابه بامرأة غيرها).

قاطعه علي:

(الغيرة؟! فحدث ولا حرج فزوجتي بركان غيرة حتى أني أضطر عندما أخرج من البيت أن أقفل هاتفي حتى لا تلاحقني باستجواباتها المزعجة، والويل لي إن عدت إلى البيت فاقد شهيتي للعشاء لأنها لن تغفر لي أبداً هذه الجريمة إذ تحاصرني بأسئلتها الاستفزازية كما لو كنت آتٍ من موعد غرام قد أشبعتني الأخرى لذيذ الطعام).

(يا سليم أنا من أحسدك على زوجتك لأنها لم تقيدك بحبالها الغليظة وتطاردك بشكوكها المريضة وتتصيد عثراتك لتدينك بها، أشكر الله فأنت حر طليق).

استدرك سليم: (ألا تعتقد أن هذا من الحب؟).

سخر علي:

(حب؟ لا أريد هذا الحب، أريد أن أعيش كأي رجل طبيعي، أريد حريتي التي حرمت منها، فزوجتي قيد يشعرني بالتعاسة).

تمنى (سليم) في قرارة نفسه لو كانت زوجته بهذه الخواص بيد أنه كتم ذلك الإحساس خشية افتضاح إعجابه.

تساءل علي:

(ما بك صامت؟).

قال سليم بعد تفكير:

(سأكشف لك سراً طالما عذبني).

دنا علي بالقرب من سليم وهمس: (خيراً إن شاء الله).

- (لقد أخطأت مع الخادمة فقد قصدت ولأكثر من مرة غوايتي، ربما كان لحضورها الطاغي في حياتي موقع خاص، ففي كثير من الأحيان أقبل على زوجتي ملهوفاً لكن جفاءها يطفئ رغبتي فيها، كم تمنيت لو ألقي بنفسي في فيضان أنوثتها حتى الغرق لكن شواطئها الجليدية تصدم موجتي العارمة فأرتد محبطاً فاحتوت (سالي) هزيمتي واستولت عليّ بحصارها الدائم بالرغم أنها لم تكن جميلة أو يرشح منها ريق أنوثة، يحدث أن تشعر بفحولتك تراق بمهانة وليس حولك إلا الشيطان يتحفز لتلبيتك حتى السكرة).

استدرك علي مأخوذاً:

- (ألم تعرض زوجتك على طبيب فلربما تعاني من مرض عضوي أو نفسي فمن غير المعقول أن يعطل خمولها كل جوانب حياتها ويشل حراكها).

أطرق صامتاً ثم واصل:

- (أخشى أنك تبالغ يا سليم كي تبرر علاقتك بالخادمة).

انتفض سليم:

- (أعوذ بالله ليس لي علاقة بها إطلاقاً إنما كانت لحظة ضعف وانقضت، وقد ازدريت نفسي بعدها وقرفت منها وتمنيت لو أطردها من البيت لكن ليس لي بديل لرعاية الأولاد).

- (إذن خذ زوجتك إلى طبيب).

سخر سليم:

- (أنها تطير بخفة الفراشة إلى الحفلات والولائم لاستعراض أناقتها، فعندما تُدعى إلى هذه المناسبات يدب فيها النشاط فجأة وتتهندم بأفخم ما عندها من زينة وتهرب بحيوية الغزال خارج البيت).

- (أنا متأكد أن ثمة حلقة مفقودة بينكما وعليك أن تستشير أخصائي نفسي ليرشدك إلى مفاتيح شخصيتها، أشعر أنها تطوي أمراً غامضاً لم تتفهمه بعد).

تنهد سليم وتابع:

- (فكرت في طلاقها إذ لم يعد هناك مبرر لبقائها في حياتي).

- (لا تتسرع يا عزيزي حاول إصلاحها، توجيهها، ألم تصارحها بالمشكلة؟).

- (نعم صارحتها فردت بكل برود أن هذه شخصيتها ولن تتغير وإذا لم تعجبني فبإمكاني أن أتركها).

صمتا وهما يتبادلان النظر حتى انبرى علي قائلاً بعد تردد:

- (يبدو أنها لا تحبك).

- (وهذا ما تأكدت منه).

غمغم علي وهو يفكر:

- (المرأة لغز كبير، تبدر منها تصرفات غير متوقعة أحياناً).

استرسل سليم في حديثه:

- (العلاقة الزوجية التي ينقطع فيها التواصل بين الطرفين علاقة ميتة، فنحن لا نتحدث أبداً ولا نتشاجر ولم أسمع لزوجتي صراخ أو تذمر، فالزوجة التي تحتج وتصرخ وتعتذر إنما هي تريد زوجها، تريد أسرتها، حريصة أن تستقيم الأمور بالشكل الذي تعتقده صائباً وإن كان أسلوبها فظاً وغليظاً ففي النهاية تذكرك أنها تحبك وتلاحقك لأنك جوهرة ثمينة تخشى أن تخطفها الأخريات، فهذه نيتها، ضميرها، قد تخنقك، تستفزك، تبتز عواطفك، كل هذه الحيل تدور حول معنى واحد (هو الحب)، أنت لا تشعر بقيمة زوجتك يا علي لأنك مشبع، متخم، لا تعرف قدرها، بالضبط كمن لا يعرف قدر عينيه لاعتياده عليهما لكنه لو فقد بصره لأدرك أنه مات في هذه الحياة، اسأل من رقد على سريره دون لحاف كيف يرتجف من البرد، بينما تتلحف بلحافك لتدفأ، أيهما تفضل يا علي!).

أطرق علي وهو يرد بصوت خابٍ:

- (أكيد اللحاف الدافئ).

واسترسل سليم موضحاً:

- (المرأة إذا لم تدفئ زوجها وتحميه من برد الوحدة وصقيع الوحشة لا قيمة لها في حياته، لا أهمية لها في وجوده أصلاً حتى لو كانت صارخة الجمال، مثقفة، فأنوثتها الدافئة هي التيار الذي يسري في نسيجه ولحمه وعروقه ودمه فينبت في كيانه الحب ويتأصل مع الأيام فتأتي أخطاءها العرضية وزلاتها الغير مقصودة منغصات مزاجية يمكن أن تُغتفر، فالمرأة سكن الرجل والرجل سكن المرأة وهي ثوبه الساتر كما هو ثوبها الساتر كما يقول الخالق عز وجل (هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ)، هذا الذوبان والانصهار يعطي لحياتك وهجاً ومذاقاً فإذا لم تتحقق هذه الكيميائية كان لزاماً على الزوجين أن ينفصلا).

استعاد علي وهو يصغي باهتمام صورة زوجته، بإحساس مفعم، وبنظرة استكشافية، فالتهب الشوق في قلبه وتمنى لو يضمها الآن ملء صدره، تفاجأ بسليم يقف مستأذناً وهو يلقي نظرة خاطفة على ساعة المقهى:

- (أعتذر منك فإبني ينتظرني في النادي).

صافحه بحرارة:

- (كم سعدت بلقائك عزيزي وبخبرتك المدهشة في الحياة وأتمنى أن نتواصل).

- (بالتأكيد).

وافترقا كلٌ إلى غايته، وكانت غاية علي أن يشتري لزوجته باقة ورد، فقد حطم النظارة السوداء التي جنحت به إلى السلبية والسوداوية في استقراء شخصية زوجته البديعة.

دخل البيت والابتسامة تشرق في وجهه، نادى زوجته وهو يشع ابتهاجاً:

- (غفران، غفران).

أقبلت غفران ودبيب قدميها القويتين وهي تقطع السلم يُضحكه، فقد استرجع حديث سليم.. (تذكر أنها امرأة حيوية!).

بحلقت في الورد مندهشة.

بادر علي:

- (إنها تعبير عن تقديري وحبي).

سألته مرتابة:

- (ماذا فعلت لتغطي ذنبك بهذه الحيلة؟).

هزّ علي رأسه مردداً:

- (لا حول ولا قوة إلا بالله).

ليست هناك تعليقات: