.

.

جديد

الأحد، 27 يونيو 2010

(( ظـل الأخـرى ))

خلف الباب المؤصد ينكشف الستار ويتعرى كيان الإنسان عن الافتعال والتكلف.
منذ اللحظة التي انطفأت سكرته والحزن لا يبارحه شئت أن أسأله لكني ترددت، سأترك الأيام تفسّر لي خبيئته، فهو يرتد إلى اليأس والإحباط مع كل حالة تقارب حتى أدركت أن اللحمة الروحية إذا انفصمت لم تستطع الأجساد أن تتناغم باتحاد كامل.
كثيرة هي الليالي التي ألمح فيها يقظته، يتقلب على جمر القلق، وشبح الأخرى يلمع في عينيه المسهدتين ويكابد كي يطويها في ذاكرته لكنه فضح ما في طويته فنومه المتعثر واستيقاظه في أوقات متأخرة من الليل يتكئ على ظهر السرير والسيجارة تحترق بين أصابعه ينفث عذابها مع دخانه، كان يعتقد أني غارقة في النوم مستلقية على شاطئ الأمن الزوجي قد استوفى كل شروط العلاقة وحقوقها الرتيبة ليعود ثانية إلى خلوته، لا يعرف أني كسيجارته هذه أحترق معه وأتعذب بسببه وأطلق حمم زفراتي في اليوم ألف مرة وأجاهد نفسي كي أستريح من التفكير دون طائل.
لم يمض على زواجنا شهر والفكرة تستحوذ رأسي، لكني لا أدري لِمَا أتردد في مصارحته، أبقيت الأمر عائماً، ربما لاعتقادي أني واهمة أو هكذا أغذي إحساسي وألبس الحقيقة أكذوبة وأصدقها مفادها أنها مجرد وساوس شيطانية ينبغي أن أقاومها باستمرار وأكف عن مراقبة هاتفه وتأويل الشبهات إلى حقائق ملموسة مقرونة بأدلة وبراهين تستدعي مواجهته بجرم الخيانة.
هل أستشير صديقتي المقربة لعلّها تنصحني وترشدني إلى السلوك الأصوب.
نهرتني بشدة: (لا تفتحي عليكِ باب جهنم).
مسحت دمعتي: (لكني أعاني، بل أكاد أفقد صوابي).
- ((لا تخلقي مبررات هروبه، بعض الرجال ينتظر إشارة سلبية من الزوجة كي يقلب المعادلة لصالحة)).
- ((إلزمي الصمت فلربما الأيام كفيلة بدفن خيالها أمام واقع زواجه)).
وأحسبها معركة صامتة تندلع داخلي كي أنتصر عليها وأظهر له محبة وطاعة صادقة، لكن شرارة الالتحام لم تشعل موجة جذب، أشعر وكأني أرجم بالغيب وأراهن على المستحيل فهو يزداد نفوراً وينسحب إلى الأبعد.
ولدت في داخلي رغبة ملحة في كشف هويتها، ماهيتها، تلك النائية بالمكان الحاضرة في قلبه، تستولي على عقله وروحه وتأخذه بشدة إليها فتتركه لي جسداً بلا روح، كيان فارغ وعقل شارد، ما شكلها؟ ما لونها؟ ما طولها؟ المسجات المباغتة تقهر صبري وتخرجني من طور الحكمة، إنه يتزلزل في رنينها وكأنها البشارة السماوية وسمته ينقلب من النقيض إلى النقيض رهن رسالتها المبعوثة، لو أني أعرف هاتفها لقتلت حلمها في المهد وأيقظتها من أملٍ سراب، لكنه هذه المرة خرج مذعوراً بعد أن قرأ رسالتها في الهاتف وأظنه ذهب للقائها أو مهاتفتها لأمر هام.
اتصلت ببدرية صديقتي وأنا أرتعد غيظاً أبلغها انهياري ونفاذ صبري ورغبتي في تفجير الموقف.
هدَّأت من روعي:
((أيتها الحمقاء ألم تفكري أنه لو كان يحبها لتزوجها، بل تزوجك أنتِ، هذا يعني أنها نزوة طارئة تأخذ وقتها وتنصرم)).
نعم، بالفعل، لم ألتفت إلى هذه الحقيقة، لو كان يحبها لتزوجها.
((إنها في الظل، في العتمة، وأنتِ في النور وأمام الناس والواقع الذي يفرض نفسه، والحقيقة التي لا تقبل الشك، وغداً تنجبين له الأبناء لتأخذه أعباء الحياة وتشغله عنها، ربما هي من تتعذب وتحترق بنار الغيرة وتتمنى لو تأخذ مكانك)).
استرحت تماماً وعدت لحياتي بمعنويات مرتفعة أعامل زوجي بمحبة وأداري شكوكي بشيء من العقل حتى وقعت عليه يوماً وهو يختفي في حجرة الضيوف بينما كنت في المطبخ، قد ظن انشغالي فرصة ليهرب إليها خلسة، خلعت نعلي ومشيت بحذر حتى التصقت بالباب الموارب وأصغيت إليه وهو يهمس إليها بارتباك:
((قلت لكِ اصبري ستتحقق أمنيتنا كما نرجو ونتمنى، اذهبي الآن وسأحدثك لاحقاً فالوضع لا يسمح لي بإطالة الحديث معك)).
عدت إلى المطبخ على الفور، وكدت أن أنزلق لشدة اضطرابي وغضبي وكل إحساس سلبي هجم عليّ فجأة، فقدت التركيز ولا أعرف ماذا كنت أفعل، اختنقت، خلعت صدرية المطبخ ورميتها على الأرض بَرِمة ضاجة، ولمحني وأنا أصعد السلم.
((هل انتهيت من تجهيز العشاء؟)).
التفت إليه أرميه شزراً وبامتعاض:
شعرت بدوار ((اطلب من المطعم)).
صمت وهو يبحلق في عيني مرتاباً وكأنما حدس بما يخالجني، دخل الحجرة خلفي وسألني بقلق:
((هل أطلب لكِ عشاءاً؟)).
((لا أشكرك لست جائعة)).
((آخذك إلى الطبيب؟)).
((تناولت حبة بنادول)).
اعترتني موجة غضب عاصفة فانفجرت:
((حسين إن حياتنا باتت مستحيلة)).
ارتبك وحاول أن يخفي انفعاله عبر التشاغل بالكمبيوتر.
((أراك صامتاً، أجبني هل تفاجأت بهذه الحقيقة)).
تجاهلني تماماً وهذا ما استثارني:
((وإذا كانت هناك أخرى فلا داعي لأن نستمر مع بعض)).
((أنتِ تهذين)).
((بل أنا أقر هذا الواقع الذي لا يمكن أن تداريه عني)).
شعرت كمن ألقيت عبئاً كبيراً عني.
((اتركي عنك هذه الأوهام واستعيذي بالله من وساوس الشيطان)).
كان يقطع عليّ الطريق من جميع الجهات وينكر كل تهمة موجهة له ويتملص بطريقة ذكية، وأخذ يحرص في الأيام الأخيرة على معاشرتي بالمعروف ومعاملتي بالحُسنى ويقهر نفسه على إرضائي، لكني أتعذب في قرارة نفسي وأعرف أن هناك من ملأت كيانه وروحه وصمته الذي غلّف أكذوبة حبه لي، فإن كل خلجة من خلجاته مصهورة بعشقها، معجونة بذكراها.
وذات ليل وهو ذاهب إلى الحمام ليقضي حاجته، وبينما في الهدأة أتقلب مسهدة (رنة ماسج) انتشلتني من نوم قلق يجافيني لفرط التفكير، وعلى الفور التقطت تليفونه وقرأت الوارد، كانت رسالتها المفاجئة جعلتني أفهم طبيعة هذه العلاقة.
((زوجي في إجازة غداً، لن أستطيع لقاءك)).
دونت الرقم وأعدت التليفون مكانه وأنا في ذروة ارتباكي، خشيت أن يفطن إلى محاولتي الجنونية، بيد أنه لم يعرف إلا صباحاً عندما قرأ ماسج آخر جاءه منها وهو يهم في الخروج وحدجني بنظرة غاضبة دون أن ينبس بحرف، أعلم أنه لا يملك الجرأة على مصارحتي، اتخذ من الصمت درعاً يختفي وراءه ويستر فضيحته.
اتصلت بهذه المرأة..
لم ترد على اتصالي الأول ولا الثاني لكنها في المرة الثالثة ردت، كنت أنفخ اضطرابي وحنقي بفحيح اختزل كل طاقة الغضب والغيظ داخلي وارتبكت الكلمات على لساني وتدافعت الأفكار بقوة لأن ما في باطني مخزون حنق وإذلال وكل امتهان لكرامتي كزوجة، لا أدري من أين أبدأ؟ وكيف أبدا؟ رغم أني المظلومة التي وقع عليها الظلم وهي المذنبة التي اقترفت جرماً في حق حياتي، لم أجد نفسي إلا وإعصار غضبي يهدر:
((كيف تسمحين لنفسك هذا الفعل المشين وأنتِ متزوجة)).
شعرت برعبها وقد شلّ كل ذرة فيها:
((عفواً من المتحدث؟))
((أنا زوجة حسين، ألا تخجلين من نفسك وأنتِ تطاردين رجل متزوج في ساعات الليل المتأخرة، أين ضميرك ودينك أيتها الخائنة)).
تهدج صوتها وخفت:
((يبدوا أن النمرة خطأ)).
وتابعت وأنا أستجمع شجاعتي وقواي المبعثرة:
((ابعدي عن زوجي وإلا فضحتك أمام زوجك وجعلت سيرتك على كل لسان)).
قطعت الاتصال ونفذت بجلدها.
تنفست الصعداء فقد أطلقت عن صدري حمماً ثقيلة جاثمة، اتصلت ببدرية لأنقل لها الحدث بيد أنها عاتبتني بشدة:
((لقد ارتكبتِ أكبر خطأ)).
((لم أعد أخشى الغرق)).
((هذه اللعبة تحتاج إلى هدوء أعصاب)).
((إن من تعش تجربتي لن يبقى لها ذرة أعصاب)).
((أخشى أن يهددك بالطلاق)).
((لا يهمني فأنا مطلقة منذ الليلة الأولى)).
وتفاجأت بـ (حسين) وقد صارحني بكل هدوء وأظنه حكم بالإعدام على كياني كزوجة، لقيمتي كامرأة تشاركه أدق جزئيات حياته، وبكل بساطة وهدوء اعترف:
((هذه المرأة في طريقها إلى الطلاق، وقد جاءتني إلى المكتب لترفع قضية طلاق بالضرر على زوجها السكير المقامر قبل ثلاث سنوات وأحببتها ومن قبل أن ألتقيك وأتزوجك، وقد نويت الارتباط بها لكن حدث أن رفضت المحكمة قضيتها، وهي ماضية في إجراءات الخلع لكنها متورطة بمشاكل كثيرة وأنا أقف إلى جانبها بصفتي (محامي) ومحب يرعاها وسأتزوجها متى ما تهيأت الظروف لأني لن أستطيع التخلي عنها، هذه هي الحقيقة، والخيار لكِ إن أردتِ البقاء معي كان بها، وإلا فأسرحك سراحاً جميلاً إن شئتِ الانفصال، لن أخادعك وأعدك بوعود لا أفي بها)).
كأني بمطرقة هوت على رأسي وأردتني ميتة، تجمد كل إحساس فيّ، ابتلعت رمقي وتسمرت في مكاني لا أدري كيف أختار أو أقرر... وبصوت خافت حبسته الدهشة:
((إلى هذه الدرجة تحبها؟!)).
هزّ بالإيجاب.
((لكنها مازالت متزوجة؟)).
((إنها في قلبي وكياني ولن أستطيع اقتلاعها مهما حاولت، فكرت كثيراً أن أنساها وأطويها في ذاكرتي لكني فشلت)).
اضطربت، لا أدري ما أقول، انحلت كل أواصري وفقدت قدرتي على ضبط انفعالي، هويت على السرير باكية:
((وبهذه القسوة تواجهني؟)).
بنفس القسوة التي سمحت لنفسك التجسس على خصوصياتي، كنت أداريك، وأعاشرك بما يرضي الله، لم أجرحك أو أهينك أبداً، إنما منحتك حقوقك كاملة وقمت بواجبي بالشكل المطلوب وحاولت كتم حبي حفاظاً على مشاعرك أن تجرح، لكنك تماديت واخترقت أسوار خصوصيتي فوقعتِ في هذا الهمّ.
((لكنها خيانة لا ترضي الله ولا الضمير)).
((أنا أعرفها قبلك)).
((يمكنك التحرر من قيدي إذا شئتِ لن أرغمك على البقاء)).
((أبهذه السهولة؟!)).
((احترت معك، لا أدري كيف أرضيك؟)).
((اتركها)).
((إن تركتها ستظل في عقلي وقلبي)).
((إذن أنت لا تحبني)).
((أحبك، فالرجل يستطيع أن يجمع أربع نساء)).
((كم أنت جاحد وظالم، طلقني لن أستطيع العيش معك بعد اليوم)).
وبكل برود وكأني لا أعني له شيئاً:
((كما تشائين)).
وهكذا...
قضيت حياتي مع هذا الرجل وأنا أتردد على بيت أهلي في كل شهر مرتان أو ثلاث مرات نتشاجر بسبب هذه المرأة، أطالبه بالانفصال وأخرج بحقيبتي مودعة، وأرجع له نادمة أعلن توبتي وتقبل الواقع، ولكن سرعان ما أتذكر ظلها الذي عكس التعاسة على حياتي فأثور، أقرر بنفسي نهايتي وأتراجع عن قرار الطلاق، تخاتلني رغبة في أنه ييأس يوماً منها ويهجرها للأبد وسيبقى لي وحدي.
لأني بكل أسف أحبه بشدةّ!

ليست هناك تعليقات: