.

.

جديد

الأحد، 27 يونيو 2010

(( كبريـاء الرجُـل ))

(ثمة وخز في قلبي، لا أدري ما سببه)، هناك أشياء داخلنا تنبئنا بوقوع حدث ما، تشاغلت عن هذا الهاجس بإعداد بحثي للمؤتمر، فللقلب ساعة تذكيرية تنبهنا إلى أشياء ربما تناسيناها أو حاولنا نسيانها على الأقل.
ناداني (مختار) بينما هو يشاهد التلفاز:
((سوسن نتائج الانتخابات باتت وشيكة)).
جئت بفكر شاغل لم أتابع هذا الحدث لزحمة مشاريعي ولضيق وقتي.
جلست أشارك زوجي الأمسية وأصغيت إلى المذيع وهو يعلن أسماء المرشحين في المنطقة (......) شحب لوني وبردت أطرافي وخامرني قلق كبير.
انتبه زوجي وسأل بدهشة:
(ما بكِ؟ لستِ على ما يرام).
أبدد ارتباكي
(سباق أقدار يجعلنا في شغف لمعرفة الفائز).
خفق قلبي بشدة وكان قلقي فضَّاح لا يحتمل التضليل، أطلقت زفرة حارة اختزلت سنين عمري الماضية وقصة أرجأتها الأيام لتعود الآن بفصل جديد، فاسمه يتردد أمامي عندما يرتفع عدد أصوات الناخبين ويقترب من الفوز.
تخرج الذكرى من صمت السنين وتصحو من سباتها بعد أن نفضت عنها غبرة الأيام ويعود حنين جارف إلى قصتي معه حينما كتبناها في طلوع شبابنا على مقاعد الدراسة الجامعية حيث جمعتنا الحوارات الثقافية والمجاذبات الفكرية في تيارات تتآلف مرة وتتنافر مرة أخرى وميوله لمدرسة فكرية مضادة لأفكاري واختلافاتنا في وجهات النظر والحب المتراكم مع يومياتنا المشحونة بالعمل يتحطم فجأة على صخرة كبريائه.
يقترب فرز الأصوات من الجولة الأخيرة.
جذبني مختار إلى واقع كان قد خدرني وأسدل على الماضي أستار الفرقة والنسيان.
(ما بكِ شاردة؟).
(لا، كنت أفكر في بحثي).
وفي احتيال نهضت لأجلب علبة المحارم من الحجرة بيد أني مصغية بكل جوارحي إلى الذروة التي تجعلني في تماس مع الماضي.
وبرز اسمه ضمن المرشحين الفائزين (فيصل عبد الغفور) اختلجت كل ذرة في كياني واستنفرت مشاهد الماضي بأدق جزئياتها وكأنها حدث بالأمس، لا أعرف كيف أصف حالتي وأنا ألملم ذكرياتي المبعثرة وصهيل صوته يناديني من بعيد.
أطرقت في خجل:
(ولماذا أفكر بالأمس وقد طوته السنين).
(اليوم لستِ على م يرام، هل هناك ما يزعجك حبيبتي؟).
قال مختار وهو يدخل حجرة النوم.
(لا.. مجرد قلق، فالبحث شاق ومرهق ويشغل تفكيري).
داريت الحقيقة باضطراب.
التفت إليّ:
(أشعر بصداع، من فضلك ناوليني قرص بنادول).
وبفكر ساهم أفتح الدرج وأتحسس علبة البنادول بشكل آلي لأني أدمنت هذه الأقراص وغيرها من المسكنات لصداعي المزمن.
(خذ ما تبقى من العلبة).
الصوت الهادر من سنين الماضي يخترقني بشدة إذ لا أعرف كيف أجتاز كل منّا تجربته بعد مرارة الفراق والقرار الجاحد الذي اختاره فيصل مخرج لأزمتنا الخانقة، لأننا كنّا كثيراً ما نتحاور حتى نصل إلى نقطة عدم اتفاق تأخذنا إلى منطقة نائية نتيه فيها عن بعضنا بعض.
تمددت على سريري مرهقة وأرهف السمع إلى حفيف وريقات شجر الصفصاف في أوائل مارس (...19) حينما أعلن حبه ضمن مساحة ضيقة جمعتنا وأفراد القائمة المرشحة في انتخابات الجامعة، كانوا يعرفون أننا توأمة لا تقبل الانفصال وظروف العمل والبحث العلمي ورحلاتنا المشتركة غذّت فينا هذه المشاعر، كنت الأكثر ذكاءً وتفوقاً وكان الأقوى شخصية، لم يعبر لي عن حبه إلا ضمن إشارات مختصرة وسريعة فهو رجل عملي وديناميكي نشيط، أقف خلفه فخورة أدعم نشاطه وأساعده في البحث عن مصادر الكتب لأوفر عليه الوقت والجهد ولعلي كنت السبب في نجاحه في الدراسة، أكتب أبحاثه وألخص له المحاضرات التي يغيب فيها لإنجاز أعماله الأخرى، كان كالماكنة تدور وتطحن بآلية قاسية وشعرت أنه قد نسيني في غمرة انشغالاته فانطفأ داخلي إحساسي بذاتي، لم أكن طالبة عادية في الكلية بل متميزة ومحط اهتمام الأساتذة لكنه أشعرني بالمهانة وكأنه لا يقبل أن أضيء إلا من خلال نوره المنعكس علي... فتجاهلني مرات عدة واتخذ قرارات استبدادية باطشة، كسر أجنحتي كي لا أحلّق دونه وحوّلني إلى كائن تابع وألغى إرادتي وشلّ كياني وهمّش شخصيتي، قالها لي وهو يمرّ كالريح أمامي سريعاً، عنيفاً (اقبليني كما أنا يا سوسن وسأسعدك دائماً).
يعني أن أسلم له قيادي مذعنة راضخة وكنت مسحورة بشخصيته المهيبة، مفتونة برجولته الفخمة، هذا اللون من الرجال الذي يغزو قلب المرأة دون استئذان، وعقلي المتمرد كان يضج متقلباً، يرفض الاستسلام قهراً دون قناعات حتى للرجل الذي أحببت.
وعندما اقتربنا من سنة التخرج نضجت مداركنا واتسعت آفاقنا الفكرية فما عدت كما الأمس مستسلمة وهو يضغط عليّ من كل اتجاه كيما يسيرني ضمن نهجه وفكره الذي لم يعد يستهويني ويقنعني كما حدث في باكورة لقاءنا.
فأنا معتزّة بشخصيتي، بفكري، لن أقبل أن أكون أسيرة لإرادته.
غضب (إنكِ لا تحبيني يا سوسن).
(فيصل أرجوك لا تضخم الأمور).
هتف نافراً:
(أشعر دوماً بجفافك واعتراضك الغير مبرر).
(لأنك تعمل باستمرار على إلغاء شخصيتي).
(شخصيتك يجب أن تذوب في شخصيتي إذا كنتِ تحبيني).
أجفلت:
(آسفة جداً، لست حلمك، لست أمنيتك، ابحث عن جارية من جواري هارون الرشيد).
(وما الضير إذا كانت الجارية تعشقني).
(أنت مغرور وجاحد).
(وأنتِ جافة مجردة من الأنوثة).
استفزني وطعنني في كرامتي، صرخت ملء مشاعري:
(وأنت وقح، عديم الثقة في نفسك).
تسمّر في مكانه وكأن صاعقة هوت على رأسه فأردته نُثار... تركني ومضى دون أن ينبس بحرف.
ولم أكن أعرف أن مشاعره اُغتيلت وروحه قُتلت، فقد اختفى من حياتي وانتظرته أيام لعل جرحه يبرأ ويعاوده الحنين.. اتصلت به وكان تلفونه مقفل، حاولت استمالته عبر الوسطاء من الأصدقاء لكنه انغمر في صمته وأخذ يتباعد دون أمل في رجعه ولوعتي عليه تطحنني طحناً وتكوي كل منابت إحساسي بل تقلعني من جذوري وتتركني في فضاء الحيرة مضطربة هائمة، شعرت حينذاك بقيمته، بحبه بلونه المميز، بكل الجزئيات الرائعة التي تركت فينا أحلى الذكريات، كتبت له رسائل الاستعطاف والاستغفار، وبعثت له الزهور لأستميل عاطفته، وأستثير حنينه، حتى كان يوم التخرّج والكل مستعد للاحتفال، شاهدته يجلس في الصف الأول من الطلبة خفق قلبي بشدة وتمنيت لو أصرخ أمامه معلنة أمام العالم كله أسفي وندمي لكنه أبداً صاد، معرض، قد نفر قلبه دون رجعة.
وبقيت طوال هذه المدة أفكر فيه وفي موقعي في قلبه لعله نسيني أو طواني ضمن الصور التي يزدريها، فالطريق أمامي مقفر والباب مؤصد والأمنية مستحيلة.
انفض الحفل ولبثت في مكاني أنتظر لعله يرمقني بنظرة أخيرة استقرئ فيها قدري أو يلتفت إليّ ببعض الحنين، أطرق وهو في طريقه إلى الباب ولكني اعترضته بجرأة ووقفت أمامه أتحدى صمته وأخترق متراسه المزعوم.
(مبروك).
تنهّد وعيناه تداريان حباً مضطهد في أعماقه.
(وأنتِ مبروك أيضاً).
وفي استجداء مذلّ:
(أهكذا تلقيني على الرصيف وترحل بعيداً).
رمقني بنظرة جامحة حطمت كل معاقل صمودي وظننت أنه قد احتفظ بخط الرجعة.. إذ شملني حبه بومضة عابرة أرخت أعصابي فابتسمت متفائلة:
(كل شيء سيعود كما كنّا نحلم يا فيصل).
أطلق زفرة حارة من كبد محرور ثم قال وهو في طريقه إلى الانصراف:
(هذا قرار عاقل اتخذته لصالحنا).
كدت أن أهوى لشدة الصدمة.. صحت في صوت مذبوح:
(فيصل؟).
(عن إذنك فخطيبتي بانتظاري).
احتال علىَّ بهذه الأكذوبة ليهرب مني.. وكيف يفرّ الإنسان من دمه..؟!
تلفَّت حولي كالبلهاء أستعلم من أصحابه عن حقيقة خطبته بعد أن نزفت آخر قطرة من كرامتي وكبريائي.
أطرقوا في استياء إذ كان مصرع حبنا حدث جلل تناهبته طلبة الجامعة بالتحليل والتوثيق.
وتركني فيصل ريشة في مهب الريح أصارع قدراً مرعباً لوحدي بعد أن كان لي العون والسند وعلمت أنه سافر إلى (لندن) لإعداد الماجستير بعد أن تزوج من إحدى قريباته، وشعرت بالفراغ الكبير، الفراغ الذي يتركه رجل كان يملأني حتى النخاع وأحسست بالهزيمة النفسية وعمق الجراح وحاولت الخروج من شرنقة الوحدة بالزواج من أول رجل يطرق بابي لعلي أعبر محنتي بصبر وجَلَد.
ودخل حياتي (مختار) ذلك الرجل اللين الهين الذي استطعت أن أتعايش معه بسلام وصفاء، ودفنت الماضي بكل صوره وعذاباته، أقمع وجعي بإدماني العمل ومغالبة شوقي المستعر حينما تهب الذكرى هبوباً عاصفاً في أيام كثيرة، إذ بقي (فيصل) ذلك الرمز الحلم الذي ترك داخلي جُرحاً عميقاً وحفر في أعماقي بصمة لا تمحوها السنين أبداً، تطل عليّ في ليالي وحدتي حينما يقترب زوجي نحو مساحة صمّاء يغمرها جليد الرتابة والملل لكنها أخذت تتلاشى مع السنين كلما انطوت صفحة من صفحات زواجي.
دق جرس المنبه، فالساعة الآن الخامسة صباحاً.
نهضت مستعدة لصلاة الصبح وجلست على سجادتي أتضرع إلى الله عزّ وجل أن يساعدني في مقاومة الذكرى ومغالبة سطوة الماضي بصولة روحيّة تهزم ضعفي، وإلا جرفني الحنين إلى هاوية الضياع.
التفتُ إلى مختار وهو يدخل إلى الحمام ليتوضأ وأقنعت نفسي أنه واقعي الذي ينبغي معايشته بتقبّل واستحسان والحقيقة التي لا تقبل الشك.. ففيصل كان حلماً وانقضى وحديثاً من أحاديث الجوى.

ليست هناك تعليقات: