.

.

جديد

الاثنين، 28 يونيو 2010

( امرأة عاطفية جداً )


كان ينقصني شيئاً رغم كل مظاهر الحياة الباذخة، فالوحدة خانقة رغم ضجيج الكائنات حولي، لأنك تشعر أن هناك شيء في داخلك فارغاً وتحاول استجلاب الحياة فيه عبر دفق إحساساتك المصطنعة، إذ يتسلل نوع من المرارة تنزفه في آنية فاخرة رغم قرب الآخر منك تحسبه شريك الفرحة والدمعة.
منذ اليوم الأول لزواجنا وأنا أجتهد كي أبلغ حالة من التناغم معه وفهم حقيقة لا تُفسر، عجز المنطق عن توصيف حالتي الزواجية وكأنها ذات وجهين متناقضين ظاهرها السلام والصفاء وباطنها النفور والازدراء.
حاول (حسام) أن يسترضيني بكل صنوف المادة ويغدق عليّ أمطار عطاياه بكرم خُرافي، أوجد داخلي حاسة شبع أقرب إلى البلادة منها إلى الدلال، وكأنه عطّل ماكنة انفعالاتي المتضاربة فلم أعد أطلب أو أعترض أو حتى أشاكس، هكذا تحسدني النساء إذ أبدو بينهن الملكة وهن الجواري، كنت أتوق إلى فورة تشعل إحساساتي نحوه كرجل، فقد عطّل داخلي أنثى مترعة بعاطفة جامحة، وأيقظ طفلة ساذجة يسترضيها بأشهى حلوى وتركت نفسي رهن مزاجه البارد وكل عواطفي نحوه تتجمد وكأني مخدرة بمناخه الشتوي الذي يدفعني إلى الاستغراق في النوم بعيداً عن صحو الشمس وشروق الحياة ودفء اللحُمة، تبدلت مكوناتي النفسية تماماً وإذا بصخب انفعالاتي فتور وانطفاء وشعرت بكياني وقد انسلب وتهدد بالاندثار، انتفضت، حاولت أن أتجرد من ثوب الطفلة وأنتزع ذاتي المعتقلة في سجن من ذهب فقد طالت غيبوبتي وأخذني النوم العميق وغرقت في كآبة سوداء، فكيف أفسّر ما أشعر به من عذاب صامت وأنا أحترم شعوره وتأبى عليّ إنسانيتي أن أجرح إحساسه بعد أن قدّم لي كل ما اجتهد من سعادة، فهو لم يذنب وأنا لست مخطئة إنما تعذّر عليّ التوافق بنسق مزاجه وكان اعتراضي قتلاً بطيئاً لنفسي، استشرت طبيبة متخصصة في علم النفس.
((أنتِ لا تحبين زوجك، هذا كل ما في الأمر)).
((وماذا أفعل يا دكتورة، إن ضميري يأبى عليّ أن أطعن من مدّ لي يدين كريمتين)).
((لا أدري يا سامية فالقرار قرارك، من الصعب أن أبت في المسألة الحساسة)).
وأقهرت نفسي على معاشرته بالمعروف، أبادله المعاملة الحسنة بالمثل رغم أن قلبي نافر لا ينبض نحوه بحب وكابدت كي أحمي بيتي وأولادي من كبواتي النفسية الخطرة وعواصفي المتلاطمة التي تنفجر بصرخة لا إرادية تجعل من (حسام) يقف متجمداً في مكانه لكنه يحاول أن يختزل المسافة كلما نأيت بنفسي عنه درءاً لهذه التصدعات وأتعلل بالأمراض كي أتخذ جانب الأمن والوقاية والوحدة تنخر داخلي كهوفاً غائرة يستصعب عليّ أحياناً استخراج ذاتي منها، واستعنت بصديقتي المقربة لأنفس عن إحساساتي وأكثرت الشكوى والأنين حتى وقع في سمعي ذات صباح محاضرة دينية عن جهاد المرأة وحُسن التبعّل وكيف أن معاناة الدنيا حينما نصبر عليها نتذوق حلاوة الصبر وشهد الجنة، فعدت إلى ربي أدعو وأقرأ القرآن الكريم وأناجيه سبحانه في تضرع وشعرت بالسلام الداخلي وصفاء نفسي وهدأة لم أعهدها أبداً في حياتي، وبعد سنة عشت فيها بنوع من التناغم في حياتي توفى (حسام) إثر جلطة داهمته فجأة وغرقت في حزن مرير، وصممت كتم صرختي داخلي وذبح صوتي عن البوح.
هل استجاب الله لي وخفف عني عبء الواجب ووطأة التكلف؟ كأني لم أعرف ذاتي جيداً ولم أستقرأ خبايا نفسي وما يعتمل داخلي من أهواء متنازعة.. ما أشد عذاب الضمير حينما يظل يجلدك في كل حين، لم أكن أتمنى موته أبداً، تحاملت على نفسي بقسوة كي تستقيم حياتي..
مرت سنتان فوقعت في حب رجل عوضني حرماني الطويل، ألقته الأقدار في دربي وإذا بعواطفي الجامحة تطفو على سطوح جليدية وتذيبها وتخرج من جوفي مارد عطشان، عرض عليّ الزواج لكني خشيت التجربة علناً واقترحت عليه سريّة زواجنا، كيف أصف إحساسي وأنا أشرب من نبع لا ينضب، عزف لي كل ألحان السعادة الفردوسية والنعيم السماوي فحلّقت معه في سماء حب صافية، لم أصدّق نفسي إذ كان حديثه شعراً أطربني في دلاله وشعرت وكأن السنين تعود بي إلى الوراء، كما لو كنت صبية طروبة، لاهية، أغرف من بحر أشواقه أجمل الجواهر وأنفس اللآلئ، كان شهماً، كريماً، يفيض رجولة فاستقرت نفسي المضطربة على شاطئ عينيه وشكرت الله عز وجل أن عوضني لأني صبرت على زوجي الأول واحترمت مشاعره وصنت كرامته وكتمت حزني عنه كي أحفظ البيت من أعاصير الزمن (فمراد) وجد ضالته فيَّ، في حناني، في أمومتي الهادئة، وطيبتي الخصبة، كان يعاني من زوجة جافة، ناضبة، وقع بينهما الطلاق بعد نزاع طويل في أروقة المحاكم وأخذ حضانة الأولاد وبقيت أرعاه عن بُعد، أعطيته أجمل سنين حياته ووهبني أروع أيام عمري، كنا توأمة منسجمة في العقل والقلب والجسد، كنت أصغي له بقلبي وروحي وأكفكف عنه دمعه حينما يضربه الزمن ضربات قاسية، خمس سنوات قضيناها ونحن نرفل في النعيم ونشرب كؤوس الشهد بلا خصام أو خلاف وهو يلح كي نعلن زواجنا وأنا أخشى ذلك، فقد كبر أبنائي وفكرة زواج أمهم مرفوضة بشدة، فهم يعتقدون أن الأم قديسة ينبغي أن تظل عابدة في صومعة أباهم حتى الموت و (مراد) اجتاحته مشاكل في بيته الذي يحتاج إلى امرأة تديره وترعى شؤون الأبناء، فتحمل والدته وأخوته على دفعه باتجاه الزواج.
((أولادك يعيشون في فوضى وحاجتك كرجل ينبغي أن تضعها في عين الاعتبار)).
وأنا لا ألبي هذه الضرورات لوجودي في الظل واختفائي خلف الستار، أخشى فقد أولادي، أخشى كلام الناس، أخشى أن أفقد احترامهم، بعد هذه السنوات وسكرات الحب العبقة بأجمل اللحظات تصدمنا هذه العقبة.
فقرر أن يتزوج بعد صراع مرير بين حبه لي وخوفه أن يفقدني لأني تحولت إلى إعصار غيرة وهددته بالانفصال، لكنه برر أنه يحتاج زوجة تدير بيته وترعى أولاده وتهتم بشؤون المنزل وهي لا أكثر من خادمة وكمظهر اجتماعي أمام الناس وأنا لي بيتي وأولادي ولا أستطيع أن أقوم بهذا الدور.
ومنذ اللحظة التي قرر فيها (مراد) الزواج وأنا في صراع وعذاب فقد انقلب الحظ السعيد إلى أيام كلها تعاسة وشقاء نهشتني الغيرة ولسعتني نارها الحارقة وخشيت من مجهول مخيف إذ كيف ستشاركني امرأة أخرى حياة هذا الرجل الذي منحته كل عمري ويجن معي ويضطرب حاله فقد سعى إلى موازنة العلاقتين دون أن يخسرني ويحلف بأغلظ الأيمان أنني الأصل وهي الهامش، وأني الأساس وهي العارضة التي تؤدي دوراً شكلياً وكنت متناقضة في موقفي تارة أدفعه إلى الزواج وتارة أغضب وأثور وأصفه بالخائن الغدّار بينما ينعتني بالأنانية وحب التملك.
صخرة الواقع صدمتنا وأفاقتنا من غيبوبة أخذتنا سنين طويلة، وبدت عواطفي تضطرب صعوداً وهبوطاً، وقد قضى (مراد) وقتاً طويلاً وهو يهدئ أعصابي ويمتص غضبي ويقنعني أنه لن يتغير وسيبقى لي محباً حنوناً مخلصاً للأبد لأنني الأولى والأهم.. فعندما نلتقي يعرف كيف يربت بحنانه على قلقي فأهدأ وأقنع بالواقع لكنه عندما يفارقني تعود الهواجس تصطخب في صدري كالبركان وأبعث له رسائل غاضبة، حانقة تزلزل أعصابه ويعود ليلقاني مرة أخرى ويطالبني أن أذكر الله وأهدأ وأنه يتمنى لو نعلن زواجنا ونستقر معاً في بيت واحد، فيداه مغلولتان وموقفي هو من كبّله ودفعه إلى هذا القرار الذي هو كالسم يتجرعه على مضض.
خطب مراد (أحلام) وهويت منهارة من شدة الصدمة وتأزمت نفسيتي فطلبت منه الطلاق وأغلقت عليه كل منافذ اللقاء، جن جنونه، أخذ يطاردني ويتابعني كلّما خرجت من البيت وحاصرني ذات مكان قائلاً في تضرع ((أقسم بالله أنك حبي الوحيد وزوجتي الأثيرة))، وأقسم أنه لن يستبدلني بأجمل نساء الأرض، بل إنه يدعو ليل نهار أن نجتمع في الآخر، أعود وأبكي وأغرق في حيرتي وأحترق بنار الغيرة، هزل عودي وأولادي قلقون من أطواري النفسية المكتئبة، فانبرى أحدهم قائلاً في قلق:
((اعرضي نفسك على الطبيب يا أمي فأنتي معتلة الصحة)).
كان (مراد) يعود لي حزيناً، مقهوراً، يائساً، إنه يقف أمام زوجته (أحلام) وكأنه أمام امرأة من جليد، كلما تذكر عواطفي الجياشة وحبي العنيف ودفء حناني وصبري وطيبة قلبي يغرق في الدهشة ((أنتِ امرأة ملائكية))، حاول أن يعاشر زوجته بما يرضي الله وضميره ويرعى حقوقها لكنه أبداً كان ينكمش ويتبدد إحساسه بها ويظل مستهاماً بمشاعري المشعة والتي تبعث في قلبه دفئاً مستديماً ويقارن بين الواحة والصحراء، بين الجنة والنار، بين السكن والاضطراب.. هكذا يأتيني منكسراً قد خذلته التجربة الجديدة، وهذا ما سرب غيرتي بعض الشيء، لكنه دخل في معاناة جديدة وصراع نفسي هزم كل قواه النفسية فإذا به ينطفئ في حزن، وكنت أثور غاضبة ((وهل أدخلت امرأة في حياتك لتدمّر حبنا وتنسف البقية الباقية من أطلالنا؟ كنا في الماضي أحلى وأجمل)).
اضطربت حياته فزوجته الجديدة متطلبة، وكثيرة الشكوى والتذمر لا يرضيها أي شيء، تتعقبه وكأنها تريد امتلاكه وتستحوذ عليه كاملاً ففر منها كمن يفر من سجن مرعب أو قيد بغيض، طلقها ودخل في أزمة نفسيّة حادة، حاولت أن أخرجه من هذه الدوامة لكنه كان يتباعد عني وينأى عن اللقاء، شعرت بالذنب ربما أنا سبب كل هذه الفوضى التي تربك حياته، وقررت الانفصال عنه لعلّه يستعيد توازنه النفسي ويرتب أوراقه من جديد وينظم شؤون حياته، صارحته بهذا القرار وقرأت الحيرة في عينيه والصراع الذي استنفذ أعصابه، وإن الأمان النفسي الذي عشته لفترة من الزمن بددته انقلاباته المتفاجئة وهزّت بنيان حبنا فلم يصمد وكانت هدنة أخذتنا إلى كهف الصمت لنستقرئ ذاتنا بتوحد ملغوم بالذكريات العاصفة بالمشاعر تجري في عروقنا مجرى الدم، بكيت وكأن اللحظات المريرة يبقى لها طعم النار المحترقة في صقيع الوحدة، كنت أجلس قرب الهاتف بانتظار الرد ومع كل رنة ينبض قلبي بلهفة وكأني عدت بنفسي إلى الوراء ولحظات الترقب والشغف الأول وأهم بالهاتف لأتصل به لكني أتراجع وخشيت في قرارة نفسي أن يستسلم إلى قراري ويطلقني.
مرت الساعات ثقيلة، بطيئة، تنحت داخلي وجعاً وحُرقة وأنا أقاوم الهاتف وأوشك صبري أن ينفذ واستسلمت للخاتمة وأنا محبطة غارقة في دموعي، وقرب الفجر وبينما أستعد لصلاتي باغتني (ماسج) التقط التليفون وكل ذرة في جسدي ترتجف فقرأت رسالته:
((لا تطلبي مني المستحيل، فإن الموت أهون عليّ من الطلاق)).
تنفست الصعداء وأنا أرتمي على سجادتي شاكرة ربي.

ليست هناك تعليقات: