.

.

جديد

الأحد، 27 يونيو 2010

(( بنـت الخمسيـن ))

على مشارف الخمسين تقف سنين عمري الناضبة، قد أسدل القلب ستاره وأقفلت منافذ الرواء لتنكفئ روحي في الوحشة وأهيم في فضاء خاوٍ إلا من صدى السنين يأتيني ماطراً بالدموع، يوم أن خطف الموت خطيبي وأنا في غضاضة العمر وترك في قلبي غُصّة حارة ظلت مستعرة حتى شاخت غصوني وذبلت أوراقي وتركت عمري نهباً لأمّ جاحدة وإخوة قساة يقضمون خبزي ثم يبصقون في وجهي استكباراً.
راتبي المستقطع من لحمي ودموعي تنهبه الأمّ المتجبّرة وتكنزه لحسابها الخاص، منذ بواكير الصباح وحتى غروب الشمس تنقضي سنين عمري في فراغ، أعيش أجيرة في حجرة باردة وآكل بقايا الطعام والرُعب من المجهول يغمرني حتى المنابت وعيون أخوتي المفترسة على جيبي السخي يعيشون في رفاهية وأعيش في كفاف، ينفقون في بذخ وأمسك في تقشّف وكأن المرأة التي يفوتها القطار يسحقها الزمن تحت أقدامه ويتركها فتات.
يُستنفذ راتبي كله لأقف في نهاية الشهر خاوية اليدين قد تبدد على سيارة هذا وحاجة ذاك، وسفر هذا وغرض ذاك، أفنيت عمري هباءاً والاستحقاق كان الجحود والنكران.
غرقت في اليأس وأفرطت في الطعام لعلّ لذته تنعش حرماني فأنا مخلوقة أنقرض وأشيخ والطفيليون يمتصون رحيقي لآخر قطرة وأنا مستسلمة لأن خياراتي في الحياة تكاد تكون معدومة...
ذات يوم قررت أن أستبدل سيارتي القديمة حيث شاخت من قبل الأوان لأشتري جديدة تحتمل أعبائي المرهقة، ذبحتني كلماتهم ونحرتني نظراتهم فمثلي لا حق لها في الحياة ولا لأي لون من ألوان الابتهاج ، فأنا الدابة الصموت المذعنة في الذلّ، قتلوا أنوثتي حينما تهبّ نسائمها العفوية فأرتدي ثوباً زاهياً يهفهف على بدني السمين تغمد عيونهم الساخرة خناجر التهكم والسخرية في جوف روحي العاجزة، فإذا بالرداء يتسربل بالنار فيحرق جسدي وخصلات شعري الذاوية أبعثرها في احتيال فتضفي على وجهي مسحة أنثوية ساذجة، يأتيني صوت صاعق يزلزل ثقتي بنفسي:
(جُنت فردوس!)، هكذا أُجرح.
ويتبعه الآخر:
(إنها تتصابى).
أقفلت الباب على الحياة وانكفأت في وحدتي أنتظر الموت لعلّ في الموت خلاصي من العذاب.
خرجت في اليوم التالي إلى الكراج لإصلاح عطل في سيارتي الهرمة التي لازمتني سنين المحنة، وهناك كان قدري..
التقيته...
شاب من (جنسية عربية) في العقد الرابع، مهندس، طحنته ظروف الحياة المُرّة فجاء يكدح في هذا الكراج.
لم أكن متوازنة، شملني اضطراب، تركت سيارتي بين يديه وجلست أنتظر في حجرة قريبة، غبت في أفكاري المتضاربة فمازال الأمس الثقيل يحبس أنفاسي.
(السيدة متعبة، هل أطلب لك فنجان قهوة؟).
ذبذبات صوته تلتقطني من الوجع.
سألته شاردة:
(هل انتهيت من إصلاح العُطل؟)
عيوننا في تماس أوقد شرارة مبهمة.
غضّ بصره بينما أطرقت في خجل.
(إنها بحاجة إلى قطع غيار جديدة ولا أدري كم من الوقت سيستغرق الأمر).
تذمرت لأن جزء كبير من كيان حياتي قد تعطل.
(اتركي لي رقم زوجك لأتصل به فور أن أنتهي من التصليح).
دونت له رقم هاتفي وقدمته له.
شرد قليلاً ثم هتف في حماس:
(سأجدد لكِ روح السيارة وكأنما خرجت لتوها من المصنع، أعدكِ بذلك).
تجرأ في دعوته:
(تفضلي لتشربي فنجان قهوة، يا آنسة؟! مستدركاً في فضول.
وأنا مشتتة، صحت (نعم).
وضع أمامي فنجان القهوة وجلس يدون بعض المعلومات الخاصة بالسيارة ويتعلل بأسباب العطل كي يستبقيني أطول وقت ممكن ويشرح لي المشاكل التي قد تسببها لي مستقبلاً إن لم أستبدل قطع الغيار ويطيل النظر بي مستقرءاً رد فعلي ثم صمت قليلاً وسألني مقتحماً:
(لِمَِا أنتِ مضطربة؟).
انفرط اتزاني وتبعثرت الكلمات على لساني:
(أنا.. لا، لا).
ويستحكم قبضته:
(إحساسي يُنبئني أنكِ عازبة ووحيدة، فمعظم النساء اللاتي يأتين إلى الكراج في الغالب إمّا مطلقات أو أرامل أو عازبات).
استجمعت قواي ونهرته:
(لا أدري كيف تجرؤ أن تحدثني بهذه الوقاحة؟).
تراجع:
(آسف جداً، لا أقصد، وإنما أعرض مساعدتي فإن احتجتِ إليّ أنا في الخدمة).
اندفعت نحو الباب في ارتباك.
استوقفني:
(الميدالية!).
فك الحلقة والتقط مفتاح السيارة ابتسم:
(تفضلي).
تعمّد مسّ أصابعي وهو يدس الميدالية في كفي.
تظاهرت أني متماسكة، أخذت الميدالية ونفرت إلى الشارع، لحق بي:
(كيف ستعودين إلى البيت والشارع خالٍ من السيارات، ارجعي ريثما أتصل بسيارة أجرة).
لكني تجاهلت نداءه، إذ هربت دون أن ألتفت إليه.
وعند ناصية الشارع ألقيت نفسي في أول سيارة أجرة مارة في الطريق، التقطت نفساً لاهثاً فنبضي يتسارع في خوف وكأنما يطاردني ذئب مفترس (ماذا حدث لي؟ وماذا يحدث؟
استنكرت فضوله الوقح وجرأته السمجة وأشفقت على نفسي الواهنة وقد صارت للذئب مطمع وندمت لأني لم أرد عليه بقوة وأردعه في حزم، استضعفني فتمادى في تحرشاته.
دخلت حجرتي أبكي، فالحياة الشائكة التي عشتها سلبتني الثقة بنفسي وأوهنت ذاتي فسحقت كل معاقل القوة داخلي، شعرت بهشاشتي فقد ظنني فريسة سهلة ينهش لحمها، ذلك الأحمق المتعطش إلى المغامرة.
استدركت ساخرة:
لكنها مغامرة ساذجة ليس فيها متعة إلا متعة الاستكشاف فحسب، ففتاة مجرّدة من النضارة، يابسة، ذاوية، لن يجد فيها الرجال أي نوع من الغواية.
رن الهاتف
فاجأني صوته، صداه مازال في ذاكرتي.
(أنا آسف لما حدث اليوم، صدقيني لم أقصد إلا الخير).
داهمني إحساس غريب لم أفهمه بعد.
(ماذا تريد مني؟).
(أنتِ مخلوقة نادرة في هذا الوجود، فخجلك العذري وارتباكك الجميل دل على صفائك وطيبة قلبك، صدقيني شعرت بالارتياح، أحسست وكأني أقف أمام ملاك شفّاف لم تلوثه المدنية الصاخبة بعد).
الدهشة عقدت لساني فقد كنت حذرة في إجابتي إذ حسبت إنها نوع من أحابيل الرجال.
عنفته:
(أرجوك إبعد عني).
استأنف منفعلاً:
(أرجوكِ أنتِ.. أعرف أن كلانا وحيدين وبحاجة إلى بعض).
في دهشة:
(ماذا تقصد؟)
(إعتبريني أخ، صديق، تحدثي إليّ كلما ضاقت بكِ الدنيا، اسمعيني حينما لا أجد في الغربة من يسمعني).
أقفلت الهاتف وأنا ألهث في اضطراب..
وعدت أفكر في حيرة ماذا يريد مني هذا المعتوه فأنا عجوز في خريف العمر وهو شاب في أُلق الرجولة؟
شغلني واستحوذ على تفكيري وكأن نوراً شاحباً ينبلج في عتمة الليل البهيم.
وأمضيت وقتي ساهمة أسترجع كلماته وأقلبها في الذاكرة لأستكشف غرضه، كرر اتصاله وقلب حياتي رأساً على عقب فقد غذّى إحساسي بالحياة وزرع في أرضي القاحلة نبتة خضراء وأعاد سنين حياتي إلى الوراء، وقد لاحظت أمي تبدل مزاجي وتغير سلوكي وعزلتي الدائمة في الحجرة فكنت أهرب منها كلما همّت لتسألني عن أحوالي وأبرر هروبي بالصداع والرغبة في النوم.
اتصل (محسن) لينبئني أن سيارتي جاهزة لاستلامها، ولا أدري لِمَا شعرت باللهفة تعربد في صدري وتغمرني بفرحة عارمة، هذبّت هندامي وتصالحت مع مرآتي وطليت وجهي الشاحب بطلاء أزهر، لا أعرف كيف تراجع عقرب الزمن إلى الوراء وكأني صبية مراهقة، غرّدت عصافير الشوق في فؤادي الصادي.
وقفت أمامه مرتبكة، ظل يحدّق بي طويلاً ثم كشف عن ثغر باسم وكأنما وثق في مرماه، هتف:
(تعجبيني).
احمّر وجهي خجلاًَ، لكنه انبرى قائلاً في حزم:
(سنتزوج!).
لفتني دوامة ورمتني بقايا، صحت من غياب:
(زواج؟! وهل تظن أن مثلي تصلح لذلك؟).
شدد على رغبته:
(نعم أريدك زوجة، فأنتِ المرأة التي أبحث عنها).
في انشداه مستدركة:
(أهلي، الفوارق، الظروف، لا أعتقد أن الأمر سهل كما تتصور).
(لو آمنتِ بي ووضعتِ يدك في يدي حتما سنهزم المستحيل).
تقدّم لخطبتي، وكانت عاصفة هوجاء لفّت البيت في صراخ وخناق ومعارضة شديدة ولم أستسلم لضعفي إنها المرّة الوحيدة التي أنتفض فيها على ذاتي وأتحدى ظروفي ولم أرضخ لتهديد أو أخضع لوعيد، تزوجنا فهم راهنوا على فشلي مرتابين من نواياه وحقيقة مطامعه لكني وجدت في هذه الزيجة مكاسب أفضل من بقائي عاجزة محنطة في بيت أهلي تلتف حولي حيطان باردة وصرخات رجعها الصدى.
وقد رجحت كفة زواجي على حياة جرداء تأخذني إلى العدم، حلَّق (محسن) بي نحو جنة السعادة وهناء الحياة ولأول مرة أشعر بأنوثتي إذ تبدلت ملامحي وتجددت خلايا دمي وتدفق الماء إلى عروقي اليابسة ونضحت مساماتي العطشى ندىً وطراوة وسجدت لله شاكرة لأنه سبحانه أنصفني بعدما يئست من الحياة ونفذت كل السُبل، لم أكن أعلم أن الوعد كان بانتظاري، واحة تباغتني وأنا أسير في البيداء عطشى.
وتفانيت في حبه حتى الانصهار فيه ونسيت السنوات البغيضة التي تعكّر فرحتنا حينما تذكرنا أن لقاء ربيعه بخريفي محال.
عشت رضيّة بعشي الصغير وأيامي الساكنة، تمضي حياتي في رتابة مريحة أكتفي بظله العامر وحضوره الدافئ في ليل أستحضر نقيضه وأنا في حجرتي وحيدة وأمّ ظالمة تنام على جرحي.
حتى جاءني ذات يوم وصارحني أنه سيعيد طليقته لحاجة ابنه المريض بفشل كلوي إليه وقد فكر في السفر إليها لعلاج الصبي، تعكر صفوي وانخدشت مرآة حياتي وانحلّ الحبل المتين الذي وثّق لحمتنا.
في إحباط هتفت:
(فاجأتني!).
صمت محرجا.
قلت غاضبة:
(يبدو أنكما على اتصال دائم؟)
(طبيعي فبيننا ابن مريض).
قلت وفحيح أنفاسي يلتهب مع حرقة قلبي:
(خدعتني).
(لا لم أخدعك أبداً، بل أحبك ومتمسك بك).
سافر وتركني في لجة الحيرة والقلق، تأخذني الوساوس في كل اتجاه وشعرت بنفسي أهوى من جديد في قاع الوحدة والكآبة.
وتلاشت السعادة من أفق حياتي وحلّ الشقاء، فقد سافر وترك لي الوحشة والفراغ، الفراغ الذي جعلني أتقلب على جمر اللوعة أتضور إلى رشفة من رشفاته وشعرت بالحاجة إليه وإلى احتوائه الحميم، وأنفاسه التي تعبق بالشباب، فبُعده عني زرع داخلي قناعة راسخة أنني بدونه شريدة، ضائعة فلأقتنع بقليله وأقبل بزاده الشحيح، طلبت منه أن يأتي بزوجته وابنه ليقيما معنا في نفس البلد، جاء بهما واستأجر لهما شقة صغيرة، وهكذا عشت مناصفة وزوجته الأولى والغيرة تنهشني كلما خرج إليها أبقى طوال الليل ساهمة أفكر وكأنما وقعت في خديعة وصرت مطيّة لهدفه الخسيس وخُطة جهنمية رسمها بإحكام كيما يستولي على راتبي فقد انفضحت مآربه الخبيثة، وأبكي بكاءاً مريراً وأدمن التفكير الممض وأقرر الطلاق منه لأسترد كرامتي، حقدت عليه وكرهته كرهاً شديداً إذ أربأ بنفسي الساذجة وهي تغدو لعبة بين يديه قد استغل ضعفها وحاجتها كيما يحقق أحلامه.
وتنكشف الظلمة عن نفسٍ محطمة، مستهلكة، منهكة..
أعدّ الساعات لاستقباله وأنا عابسة الوجه غاضبة النفس، نافرة الروح، سأخلّص نفسي من قيده، سأتحرر من أسره، سأفلت من شباكه لكن لا أدري كيف يتبدد قراري بلحظة وينكسر عنفواني فور أن يدخل بيتي جامحاً، منفعلاً تمطر أشواقه فوق أرضي الجرداء فيخضرّ قلبي من جديد وينبض فؤادي بحبه وأستسلم لقدري مذعنة راضخة وكأنما حديث الليل كذبة تبددها الحقيقة!
وهكذا دواليك...
أتقلب بين قرار يختزل الشك والكره والريبة والرعب من شبح الوحدة وصفير الريح في شتاءات باردة وصمت موحش يغرس في النفس خنجر الموت في كل لحظة.

ليست هناك تعليقات: