.

.

جديد

الأحد، 27 يونيو 2010

حادثة في غرفة (5)

همسة: "يقهر الله عباده بالموت والمرض"

ترك (عبد الجليل) ضيوفه في مقهى الفندق بعد أن أمضى ليله معربداً بين نشوة الخمر ولذة الميسر. فقد داهمه صداع فتاك لم يهدأ رغم العقار المسكن الذي تناوله مرات عدة.
استأذنهم:
"أشعر بالإرهاق وأظن أنني بحاجة إلى النوم".
ومشى مترنحاً نحو غرفة (5)، شعر بخدر يدب في ذراعه اليمنى ثم يزحف ببطء ليشمل ساقه كله، بات جسده متنمل الأطراف وبمشقة دخل حجرته، تناهبته أحاسيس غريبة هذه المرة، فثقل جاثم على صدره وبالكاد يأخذ شهيقه ويلفظ زفيره، فك أزرار قميصه وتخلص من حزام البنطال تحرر شيئاً فشيئا من الألبسة الضاغطة على جسده السمين بيد أنه يختنق ويختنق حتى شمله ذعر وخوف، شحب لونه وأحس بنور الحجرة يختفي ويتلاشى، ضاق به المكـان. ثمة انفصام عزله عن محيطه فدخل في شرنقة معتمة، صرخ ولا أحد يسمعه، مد يديه ليمزق الجدران الهلامية التي التفت حوله فأحس بفراغ رطيب نازع روحه في لجة الخوف والفناء. كفً ملكوتية تقبض روحه وتسلخها عن طبقات جسده الطينية والزبد المر يغرغر في زاوية فمه، ارتعدت فرائصه وهو يكابد
"لا أريد أن أموت، لا.. لا.. لا أريد.
يقاوم كي لا يلفظ جسده الروح.
يبكي كطفل اندفع من أحشاء أمه.
"رحماك ربي من هذه الوحشة".
ويتسربل في ظلمة خانقة لا حدود لها ولا أبعاد إنما فضاء لا متناهي تغمره الكآبة والصمت.
وفي ذروة الانعتاق القهري يتذكر قصره الفخم، زوجته الحسناء، أولاده، الثروة التي ربت طوال سنين حياته، الرغبة في الحياة تعتمل في كيانه وتشتعل في صدره، حبه للدنيا، كيف يفارق هذا النعيم، كيف يهجر المباهج إلى حفرة مسكونة بالأشباح، يتلفت حوله هلعاً فإذا بالصمت المطبق والخواء البغيض، صرخ مستغيثاً فإذا بذراعين مفتولتين تطبقان على عنقه فتخنق صوته وتحبس أنفاسه يرفس برجليه ويقاوم بيديه، جسده الضخم يرتج على السرير كمن يصارع عملاق، يتفصد جبينه عرقاً وينشل لسانه فتخور قواه ويأن من شدة الألم، ثم تدكه ضربات تلامس في العظم فيبكي مسيرة عام حتى تنشق الأرض وتبتلعه في جوفها الحار فينزلق الماء إلى فمه وأنفه وأذنيه فيصطلي بفورته ويتضرع إلى الله في ذل
"يا رب، ارحمني، ارحمني"
تظهر من زاوية المكان أفعى عملاقة تزحف إليه متحفزة في غضب تفترسه بنظراتها الشرسة فتلتف حوله وتعصره حتى يلفظ من أنفه وفمه وأذنيه كل ما أكل وشرب طوال سنين حياته.
ينادي فلا من مجيب، يصرخ ولا من مغيث، يتأوه
"أدركني يا رب، أرجعني إلى الحياة، أرجعني إلى الدنيا" يقع مغشياً عليه ثم يفق بعد حين على فضاء دخاني مائل إلى الظلمة ليس فيه أرض أو سماء، يبصر فوق، تحت، حوله، إنه ليس في كيان مادي، يستنجد بأولاده، بزوجته، بأهله يسمع قهقهاتهم لكنهم لا يلبونه، يأتيه صوتاً مرعباً، حانقاً يشق هذا الحجب الخرساء فينتفض
"تذكر يا عبد الجليل ماذا فعلت في دنياك؟"
لا يعرف أين مصدر الصوت، حاول أن يستدل على أثره لكنه سقط في حفرة من نار وانهالت على أطرافه سلاسل من حديد تلتهب حرارة فوثقت يديه وقدميه وجاءه رجلان مُكفهرا الوجه، أشعثا الشعر، وفي يد كل منهما كرباج يستعر من قعر جهنم.
وفجأة انكشفت العتمة عن شق من نور في سقف اللحد فمرت سحابة شفافة استقطبت ناظريه
صرخ أحد الرجلين
"انظر يا عبد الجيل فبصرك اليوم حديد"
انكشف السقف عن شاشة كبيرة
انكمش عبد الجليل خجلاً فأحداث حياته تمر أمام عينيه كاملة غير منقوصة، واضحة غير مشوشة، شريط الآثام والذنوب والمظالم التي اقترفها طوال السنين.
ضربه الرجل القبيح الواقف على يمينه قائلاً: "أكلت المال الحرام، إذ ائتمنك أبوك على ثروة أخيك القاصر فأكلت حقه وتركته يعيش اللظى والحرمان".
ويجلده الآخر مشيراً إلى المشهد الثاني
"كنت ابن عاق"
تركت أمك تعيش وحيدة حتى ماتت حسرةً لترضي زوجتك الحسناء".
صرخ من فرط الندم
(العفو، العفو يا رب)
يجيبه الرجل "لا ينفعك الندم يا عبد الجليل" انظر إلى نفسك في هذا الموقف وربما قد نسيته أو تناسيته إذ كنت ظالماً، جاحداً، جاءك رجل فقير عند باب الشركة يطلب منك العون نهرته وطردته ثم ركبت سيارتك دون رحمة.
بكى عبد الجليل وهو يتابع المشهد المؤسف عن حقيقة نفسه الجاحدة.
"غفرانك يا رب، غفرانك".
(كنت ديوثاً يا عبد الجليل حينما عرضت زوجتك الفاتنة تختال بين ضيوفك شبه عارية وبدوت مزهواً بجمالها، فخوراً بشبابها وربما تعلم في قرارة نفسك إنها نديمة أرباب الثروات) تنهال السياط على وجهه، بطنه، ظهره، فترشح خلاياه دماً وصديداً عفن الرائحة وتباغته الديدان والعقارب وهي تزحف على أطرافه فتلدغه في كل ناحية وصوب ويستنجد متضرعاً حتى تلاشى ضعفاً وهواناً.
وتترى المشاهد الفاضحة التي تدين تاريخه الملوث بالحرام فحاول أن يغض بصره خجلاً لكن الرجلين ينهرانه بشدة
"أنظر إلى وضاعتك وأنت تتحرش بصبي صغيرا!"
تعود الأفعى السامة فتلتف حوله وتعصره حتى يكاد أن يتفجر رأسه فسالت الدماء من فمه وعينيه وأنفه ثم نضبت لتخرج من بعدها ديدان تلسعه كوخز الدبابيس في عينيه وفي أطراف لسانه.
(التوبة، التوبة يا رب أرجعني إلى الدنيا لأكفر عن ذنوبي) تخرسه لطمة على فمه ويزمجر الصوت الهادر بالغضب
"عبد الجليل، تهاونت بصلاتك، وصومك"
"أجل أجل ولكن دعوني أرجع إلى الدنيا لأعبد ربي حق العبادة".
وتظهر مزيداً من صور الفواحش والذنوب أمام عينيه فيصرخ وهو يشد شعره أبعدوا عني هذا العار لا أريد أن أشاهد ما اقترفت من أفعال، كرهت نفسي، فقد فعلت ما لا يفعله البهائم.
"هذه صورك في الحياة الدنيا يا عبد الجليل، انظر إلى جسدك المتعفن وهو يرقد على سرير ملطخ بالشهوات تخادعنك أراذل النسوة وهن يسقينك الخمر الحرام".
وتهوى مطرقة ثقيلة على رأسه فتفتت مخه فتنتشر كتل الدماء على بطنه وأطرافه فشعر وكأنه في قعر حفرة من نار
أرحموني من هذا العذاب
آه.. آه.. النجدة.. النجدة"
الطرق العنيف لا يكف عن باب حجرة (5) النزيل يستغيث منذ مدة.
النور يتسلل إلى عينيه كلما اشتد الطرق على الباب.. وينقشع عنهما الضباب مع انبلاج الوعي.. فتحهما على اتساعهما، تلفت حوله مبهوراً.. تلمس بأطرف أصابعه أعلى رأسه فكان كاملاً، تمعن في ذراعيه وساقيه وبدت سليمة..
الطرق مازال قائماً
"أين أنا، أين كنت"
محاولة لانتشال نفسه من حالة اللاوعي..
وأخيراً انتبه إلى الضجة خلف الباب، وثب من فوره ليفتحه
ابتدره مدير الفندق
"هل أنت بخير؟ فقد سمعك عمال الفندق تصرخ وتستغيث"
تلعثم خجلاً ولا يدري كيف يبرر.
"الحمد لله أنا بخير، كان مجرد كابوس"
وعندما انفض الناس، جلس لوحده يفكر بالحلم المرعب وقد ترك داخله أثراً كبيراً.
وتساءل هل كان إنذاراً من الله فقد نازعت روحي وذقت من كأس الموت المرير رشفة فما يفصلنا عن الحلم واليقظة؛ الموت والحياة سوى حجب شفافة يقشعها الله بإشارة منه (كن فيكون) فإذا بنا لا شيء.. لا قيمة... فناء.
أطرق محزوناً
"آه.. كم أنا نادم على ما فعلت فإن العذاب الذي اصطليتُ بجحيمه هذه الليلة عرفني بنفسي وعلمني أن هذا النعيم زائل وأن الحياة جوفاء.
ذهب عبد الجليل إلى أحد مشايخ الدين ليفسر رؤياه فأخبره إنه إنذار كي يتوب ويرجع إلى رشده فالموت ماثل لابن آدم في كل وقت وملك الموت يتفقد البيوت كل يوم خمس مرات، يحمل بين يديه سجل بأسماء البشر يتصفحها وفقاً لمواقيت الصلاة ليقبض روح من جاء موعد رحيله.
واستعد (عبد الجليل) لهذه الرحلة فحج إلى بيت الله تائباً ودفع حقوق الناس وكفر عن ذنوبه فكان كيوم ولدته أمه.

ليست هناك تعليقات: