.

.

جديد

الأحد، 27 يونيو 2010

(( غـروب الحـب ))

كنّا أسعد زوجين في الدنيا، بل ويُضرب فينا المثل ووصفننا بـ (طيور الحب) و(روميو وجوليت) وكل ثنائية عشق شهيرة.
وقصة حبنا بدأت منذ سنين طويلة حيث كنت أصطاف مع أسرتي في (لندن) وبينما كنّا نمشي في الهايدبارك صادفنا (باسل) صديق أخي محمد أيام الثانوية كان يدرس الطب هناك فدعوناه على الغداء وقضى الصيف معنا في رحلات رائعة وثَّقت أجمل الذكريات وأروع اللحظات، وعبر هذه المجاذبات شعرنا بميل إلى بعض وارتياح تحول مع الأيام إلى مشاعر جارفة، عدنا إلى الكويت لكني تركت روحي معه، صارحت أمي بمشاعري نحو هذا الشاب فباركت هذه المحبة التي تُوجت بالزواج بعد شهور.
وزواجي صرح سعاة شيدته مشاعرنا المتلاحمة وعواطفنا المتآلفة، انسجمنا وتفسر هذا الانسجام بالتبادل اليومي لأدق جزئيات الحياة، كان كلانا حريص على أن يقدم للآخر أفضل ما عنده وأعز ما يملك ويبذل مهجته وروحه ليسعده، لم يكن (باسل) إلا رجل معطاء، حنون، غمرني بحبه ففاض على كل الناس حولي، يشرق حبه في بسمته المنعشة، في إطلالتي النضرة، في حيويتي المتدفقة، في نظرات عيوني، كنت سعيدة، وكل من يشاهدني يجزم يقيناً أني أسعد زوجة في هذا الوجود، فكيف أصف أجمل ليالي عمرنا ونهارات مشرقة وأنا أعدّ فطور الصباح في حديقة بيتنا الغنّاء فلم يخرج يوماً إلا وهو يؤدي طقوس حبه كعاشق متيم، ونبقى طوال النهار نتبادل مسجات المحبة ورنينها كتغريد العصافير... حتى أنني استثنيت رنة هاتفه كزقزقة عصفور وأمزح حينما يداعبني هذا الصوت (يا عصفوري العاشق)، أنجبت طفلتي (بسمة) برعم الحب الذي تفتق في بستان حياتنا وحلّقت كطير طليق في سماء أسرتنا السعيدة.
وفي كل سنة نحتفل بعيد زواجنا ونقضي ليلة في أرقى فنادق العاصمة لنجدد أيامنا الرائعة وذكريات شهر العسل وكان يفاجئني بصبيحة هذا اليوم بباقة ورد خلاّبة ذات ألوان مبهجة وكارت صغير يكتب عليه جملة واحدة (تمر السنين وتبقين وحدك حبي).
كل صور السعادة عشتها وكل مذاقات الهناء ذقتها، وسموت في مشاعري نحو ذروة النعيم المترع من أصفى الدنان، ولدت بعد سنتين زهرتي الثانية (أريج) لتعبق بالأفراح والمرح وتسبغ كل أيامي سعادة وحبور، صار بيتي جنة هبطت من علياء السماء لتمكث في الأرض.. الشوق اللاهب يلفحني بفحيحه حينما يسافر إلى مؤتمراته الطبية، أترقب أوبته على جمر اللهفة ويدغدغني الأمل في لقاء ينعش قلبي وساعة قرب تأخذنا إلى أبعد أفق تتلاقى فيه توأمة عاشقة ورسائل حنينه تعزف على وتر قلبي لحناً فردوسياً أردده مع كل نبض من نبضات فؤادي وأستعد ليوم عودته فأقلب حجرة نومنا رأساً على عقب، السرير بلون جديد، المفرش، باقة ورد، الشموع دفء الرومانسية والوهج الحالم، أتخيل لحظات مرتقبة تروي عطشنا بعد فراق.
أحببته حباً فاق المنطق واجتاز حدود الإمكان وذبت في كيانه إلى حد الهيام، فباسل رجل مهذب الأخلاق، جم الخصال، رفيع الشمائل، متدين، يغض البصر عن النساء ويشبع بصره مني أنا حليلته زوجته، فضلاً عن ذلك كله فهو ناجح وطموح قد خبرته في أحلك ساعات حياتي فوجدته السند والعَمَد، وعندما تطرأ على حياتي مشكلة يقف خلفي حنوناً داعماً يشد أزري، احتواني بشهامة وصبر وما من أزمة نفسية مررت بها إلا ووجدت قلبه الكبير ذلك الوطن الذي يحتضنني وابتسامة الرضى على وجهه، هو الأم والأب والأخ والحبيب والزوج، أتذكر يوم أجهضت طفلاً بعد ابنتي (أريج) والحُمى سربلتني بحرارة لافحة أحاطني بحنانه وجلس قربي يطعمني ويسقيني ويهدهدني، وعندما أبصر ضوءاً من بين ضباب الصحو والغفوة ألمح نداوة عينيه وآهته المكبوتة وهو يغالب حزنه ويطويني بين ذراعيه كطفلة شريدة تأوي إليه بعد طول شتات.
ويناديني بـ (جوهرتي الفريدة) واحترامه المقدس عندما أطل بين الناس مشيراًَ إليّ كما لو كنت رمزاً للكمال النسوي بفخر واعتزاز وكأني تحفة من السماء نازلة بتضوع منى اليقين بأني أجمل وأفضل وأروع امرأة بين نساء الأرض فأمتلئ ثقة بنفسي وينتعش قلبي ويدفء المدن النائية التي لم أكتشفها بذاتي أبداً، فالاستقراء العميق لشريكنا المحب يجعلنا نفهم ذاتنا بشكل مختلف.
فمنذ أن التقيته ونبعه يرويني من مناهل روحه الشامخة ومورد عواطفه المترعة بالخير والطمأنينة.
حتى كان ذلك اليوم الذي انقبض فيه قلبي وأنا أجهز حقيبة سفره، لا أدري لِمَا أحسست بالضيق والكدر وأن شيء في أعماقي يُنتَزع، لم أخف بنشاطي كعادتي كل مرة، فقلبي منكفئاً وغائماً، حاول (باسل) تسربة همي وملاطفتي لكني مكتئبة، ولا أعرف كيف أعود إلى طبيعيتي على الأقل لوداعه بشكل محبب ولطيف.
عانقني:
(سأفتقدك).
حدجته بنظرة عميقة:
(ليتك تلغي هذه الرحلة).
(لا أستطيع يا حبيبتي، تعرفين أنه مؤتمر هام).
(لست مرتاحة هذه المرة).
قبلني وهو يحاول تسكين قلقي:
(كلها أيام وأعود إليكِ).
وسافر إلى باريس وبقيت غارقة في لجة والاضطراب وحاولت في أيام غيابه أن أتشاغل بالبنتين أخرجهما في نزهات على شاطئ البحر، لكن الصوت الهادر في أعماقي يعربد بقوة وينبئني أنني موعودة بقدر مشئوم، وأن الدهر الخؤون سيغمد خنجر القهر في صدري ويرديني صريعة الشك والوسواس.
في الأيام الأولى بلغت اتصالاته من الكثافة ما أعاد الطمأنينة إلى قلبي، لكنه انقطع فجأة، قلقت عليه وكنت أعاود الاتصال به لكن تلفونه مغلق وعولت على انقضاء المدة وعودته في ظرف يومين فلا مبرر للاتصال، بعد فترة اتصل متعللاً بالانشغال وأبلغني أنه مضطر إلى تمديد أيام لشغل طارئ.
جن جنوني ووقعت في قعر جحيم الشك والظنون أرسم في ذهني صورة لشقراء فتنته في باريس وكتمت داخلي صرخة متمردة تبحث عن فضاء واسع من الحرية لكني قمعت هذا الغربال لأنني إن تماديت فسأدخل في دروب وعرة.
عندما حدثني بكيت بكاءاً هستيرياً:
(لقد تغيّرت يا باسل، لم أشعر بأشواقك مثل قبل).
يصمت ثم يحوقل:
(لا حول ولا قوة إلا بالله).
(إحساسي يحدثني أن في حياتك امرأة).
اختصر الحديث ليهرب:
(اعتني بنفسك، مع السلامة).
لماذا اختصر الحديث؟ لماذا هرب من المواجهة؟، لماذا اختزل الحوار؟
شعرت بانطفاء لهفته، وتباعد اتصالاته وسكنات صمته وهو يبدد ارتباكه، وعندما رجع وجدته إنساناً آخر، له وجه قد تبلدت فيه كل مشاعر الحب فلم تصلني ذرات إحساسه، ثمة حاجز وقف بيننا جعل رسالة قلبه ميتة، مفتعلة، متكلفة.
استقرأت من عينيه الحائرتين سراً يعتمل داخله:
سألته:
(ماذا وراءك؟).
رد ببرود وجفاء:
(لقد جنّ جنونك).
(باسل لا تضيعني أرجوك، لا تسقيني السم الزعاف بعد أن روتني من رحيق الحب والحياة).
جلس على حافة السرير مطرق يلقي رأسه بين كفيه، وهنا صرخت وكأني نمرة مفترسة أنشب مخالبي فيه:
(خائن، خائن).
رفع رأسه وألقى إليّ نظرة دامعة:
(الأمر خارج عن إرادتي.. صدقيني).
هجمت عليه ألكمه بعنف وأنا فاقدة صوابي:
(إحساسي لا يخطئ، خائن، غدّار).
انفجر باكياً.
وجلست قربه أنفضه وأهزه ملء غيظي ليرشح بالحقيقة:
(قل لي ماذا حدث، هل هي نزوة وانقضت؟ ماذا حدث أرجوك صارحني سأجن، سأهلك).
تنهد وهو يبتعد عني ويخرج من الحجرة لكني لحقت به وسحبته من ذراعه:
(باسل اعترف وإلا قتلت نفسي، ألا تشعر بالنار كيف تستعر داخلي).
لكن صمته كان يعذبني ويحطم كل أواصر صبري ومقاومتي.
بلغ انهياري الذروة فأخذت أحطم الفازات والتحف وكل ما يصادفني في طريقي وأنا أتعقبه وهو ينزل عبر السلم، لم أكن أعلم أن رواء الحب الذي سقاني طوال السنين قد تقيأته جمراً وسماً في هذه اللحظات.
جاء وطوقني بذراعيه وقبلني باكياً مبعثر الأعصاب وأسقاني شربة ماء:
(أرجوكِ اهدئي).
أجلسني على الكنبة في الصالون ولبثنا في صمتنا لحظات ثم انبريت أسأله:
(صارحني يا باسل أرجوك، ماذا حدث؟).
(أرجوكِ لا تحرجيني).
وبتوسل وانهيار:
(أرجوك أنت أن ترحمني وتصارحني بالحقيقة).
(التقيتها في لوبي الفندق الذي نزلنا فيه وهي عربية مقيمة في باريس).
كنت أصغي كمن ينتظر حكم الإعدام وكل جارحة من جوارحي مستنفرة.
وتابع في خجل:
(اقتربت مني تسألني عن عنوان مطعم عربي فاعتذرت لأني لا أعرف المكان بالضبط، ثم دعتني على فنجان قهوة في مقهى الفندق ولا أعرف كيف استدرجتني حتى تزوجتها زواجاً مؤقتاً).
كان يحاول أن يخفي ارتباكه.
صرخت:
(أكمل.. وماذا حدث بعد ذلك؟ أحببتها ونسيتني).
في هذه اللحظة أطلق الحقيقة كطلق ناري في رأسي فنسف صميم حبي بالحقيقة المؤلمة:
(شعرت أني أحبها وأريدها باستمرار).
صحت وأنا غارقة في اليأس:
(وأنا؟ أنسيت من أنا؟ ألم تذكرني وأنت تنحدر بنزوتك إلى هذا الحضيض؟ ألست حبيبة قلبك؟ رفيقة دربك؟ ألم تفكر بمشاعري؟ بإحساسي المطعون بالطعنة القاتلة في صميم فؤادي؟ ألم نتنفس من رئة واحدة؟
أعرض غاضباً:
(أرجوكِ كفى، لم أكن أفكر بجرحك أبداً، حاولت كتم الأمر عنك حرصاً على مشاعرك لكنك مصرة على الخوض في التفاصيل المزعجة لكِ).
وكأني في غيبوبة أحدث نفسي شاردة:
(وحبنا؟ أيامنا؟ أنسيت أني زوجتك ولي حق عليك في أن تصون عهدي؟).
(أنا صادق يا سوسن وصريح معك ولا أعرف الكذب والمراوغة ومازلت أحبك بشدة، لكن هذه المرأة شغلت تفكيري وتسللت إلى أعماقي بذكائها وأسلوبها وفنها، صدقيني هي امرأة مثقفة تدرس الفن التشكيلي ومتوسطة الجمال فأنتِ أجمل منها بكثير لكني شعرت أني منساق إليها بشكل لا شعوري، حاولت مقاومتها.
صرخت ملء روحي الممزقة:
(جبان، خائن، غدّار).
ولكم أن تتصورا كيف يأتي الرجل الذي ملًَّكته قلبي وحياتي ليعلن أمامي عن حب جديد دخل قلبه فاستحوذ عليه.
تمزقت أعصابي ودخلت في نوبة كآبة وهجمت عليّ سلسلة من الأمراض الجسدية حتى أن الأطباء أخذوا يترددوا على بيتنا من كل شاكلة ونوع وأجمعوا أن عللي ترجع إلى أزمة عصبية.
وزحف الشؤم على بيتنا الذي كان كالجنة، يغرد كالربيع، ويضحك كالشمس، طلبت الطلاق لعله المخرج لمعاناتي، إذ يكفيني أن أهرب بكرامتي المجروحة وأترك له فراغاً وذكرى، لكنه رفض الطلاق وأقنعني أنه قد هجر هذه المرأة وعمل على لمَّ شملنا من جديد ورأب الصدع، لكني فقدت ثقتي به وفقدت إحساسي بالأمان، وصرت مرتابة متشككة من كل تصرفاته، إن اتصل بهاتف ظننته يحدثها، وإن خرج في مشوار حدست أنه ذاهب للقائها، وإن صمت حسبت أنه يفكر بها، ما عدت أحبه كالأمس، ماتت ضحكتي على شفتيّ وانطفأت حيويتي، حاولت أخته أن تصلح المكسور وترمم المشروخ، لكني صرت إنسانة أخرى، قلبي المطعون مازال ينزف ألماً ويكابد وجعاً لم يبرأ بعد.
في هذا المساء كنت أقف أمام النافذة المطلة على حديقة الدار وأبكي أطلال حبي الذي تحطم، الحديقة التي أهملتها فجفت الأغصان وذوت خضرتها وذبلت أزهارها التي كنت أعتني بها وأسقيها لأنها المشهد الأزهر الذي يجمعنا في الدوح الندي كل صباح حينما نتناول فطورنا، لمحت من بعيد سيارته تقف في عتمة الكراج وبصيص نور الهاتف وهو يختلس حديثاً من نوع خاص قد اتخذ من ظلمة الليل ساتراً لعلاقته.
ساعة ونصف بالتمام والكمال، ثم دخل وفي عينيه بريق وعلى محيّاه نضارة من ارتوى وانتعش..
فررت من الحجرة غاضبة وأنا أصفق الباب ورائي.
لحق بي:
(إلى أين؟
(عن إذنك، سأنام في حجرة أخرى!).

ليست هناك تعليقات: