.

.

جديد

الاثنين، 28 يونيو 2010

( كُـرة الثلـج )

الأم المتثاقلة من عبء البنات الثمانية، فمطالبهن كثيرة ومشاكلهن معقّدة، لم تشأ أن تفكر إلا بزواجهن دون تمحيص الخاطب لأي واحدة منهن إلا في الحد الأدنى من المزايا، لكن (زهرة) تختلف عن باقي بناتها فبالرغم من شح جمالها إلا أنها أرقهن شمائلاً، ارتضت بـ (سلطان) زوجاً نزولاً عند رغبة أمّها، فهو يعمل في سلك الشرطة ومن عائلة طيبة وهكذا وجدته الأم أهلاً لزهرة.
خلعت (زهرة) ثوب المدرسة وارتدت طرحة العروس، كانت أمّها تخطط بإتقان كيما تلقي عنها همهن لتتوحد بزوجها الذي غمرها بالنعيم والدلال وظل يغنجها كعروس طروب، ترفض كهولتها المبكرة وتستثير داخلها روح شباب قد أدبر.
زوجت (زهرة) متناسية خاصيتها وتميزها في المدرسة، وقعت في قبضة زوج جاهل ظل يعيق تفوقها، المعركة اليومية مع كتبها المدرسية حينما تفترشها على طاولة الصالة لتعدّ جدولها المدرسي كل مساء، وهي لا تدري هل يمازحها حينما يخطف الكتب ويرميها أرضاً ثم يعيدها ثانية إلى الحقيبة وهي تتوسل إليه أن يكف عن إزعاجها، وأحياناً يخبئ الكتاب وراء ظهره و (زهرة) تحاول استرداده لكنه يقهقه ضاحكاً حتى تجهش في البكاء (غداً امتحاني وأنت تشاغلني عن المذاكرة) يرمي الكتاب أرضاً وينصرف خارج الدار.
مازالت هذه الطفلة محكومة برجل لم تصل معه إلى حالة من الالتحام أو شيء من الانسجام، تلاطفه كما الأخ لم تستوعب بعد حقيقة الدور الذي تعيشه فبنت الرابعة عشر تتفاعل بسذاجة وتتجاوب بآلية حيوان أليف، يكبرها بثمان سنوات لكنه أعجز من أن ينتشلها من حيرتها ومن هذه الحياة المرتبكة التي تغوص فيها بذهن شارد، عالمها المدرسي يغمرها بالامتلاء النفسي بينما هو يتعذب بوحدته الذكورية التي لم تنصهر بأليف يؤنسه، يلعن أمّاً قدّمت له بضاعة مغشوشة، أنثى باردة، وجسد غض لم يتفجر فيه نبع الإحساس النسوي، يتصل بأمّها ليفجر كبته لكنها تهرب من بلد إلى آخر تغرف من دنياها ما شاءت لها لفرص.
تحدث لـ (زهرة) أشياء لم تستوعبها بعد، الخادمة تشتكي صداعاً مزمناً وفي أوقات متقاربة وتطلب مراجعة المستوصف، يلبي سلطان الدعوة، إنهما يتهامسان ويختلسان النظر إلى بعضهما ويتواريان عن نظرها، غيابها في حجرة السطح بأعذار مفتعلة، (إنها أوهام لا تحمل أي معنى سلبي، فمن يترك نفسه لخادمة قذرة!)، وينضج صباها على مشارف الجامعة وقد دخلتها بامتياز.
(كفاكِ عند هذا الحد).
صوته يتهدج رعباً من غول قادم.
(لا أرجوك، إنه مستقبلي لن أسمح لأحد أن يقف في طريقي).
(وأنا زوجك ومن حقي أن أفرض هذا القرار).
(أنا أخطط لأدرس في كلية الحقوق وحرام أن تضيع مني هذه الفرصة).
وتبدأ معركتها الجديدة وإصرارها أن تحفر في الصخر قدرها وتشق دربها مكافحة، غربلت زوجها في كيانها واكتشفت عن وعي أنه مخلوق هش رهين يومياته البدائية، مترع بالغرائز الحسيّة، لم يعرف كيف يشعل فتيلها العاطفي لتدفئ أنوثتها المتفتحة في عطش، تنظر حولها عالماً مختلفاً من الرجال الأشداء بعقول مبهرة وحضور مهيب فتبهت فيه الرجولة ويكشف عن خبيئة طفولية بنزق مراهق وهو يتمايل في مشيته أمام شقيقاته مرتدياً ثوباً نسوياً ليمثل مشهداً لإحدى النساء اللاتي أدهشنه في الشارع، أو يقفز بخفة قط مشاكس، تغرق في الإحباط ويتلاشى إحساسها به فقد استهجنته واستقبحت كل أفعاله.
(تسريحتك تسريحة مراهق!).
قالت ممتعضة.
(بالعكس فأنا جذَّاب جداً حتى أن طالبات الثانوية يتهافتن عليّ كلما مررت أمام المدرسة).
استاءت:
(أهذا كل ما يهمك!؟ فأنت زوج وأب لطفلة وينبغي أن تكون أكثر وقاراً).
الهوة النفسية بينهما تكبر حتى باتت ملامسته أشبه بلدغة عقرب، ما شعرت بفحولته نهراً يغمرها بالذوبان وتغرق في إحساسه حتى تتلاشى، وجه مبهم الملامح ترغب في استبقاء لون محدد يوجه لها مساراً ثابتاً وبالحد الأدنى من الواقعية، الفكاهة العبثية تثير غيظها، انقلاباته المزاجية تطفئ توقها، يقف هذا الصباح أمام المرآة ويدهن وجهه بكريم مرطب ويشمه:
(رائحته زكية، اشتري لي واحداً مثله).
(لكنه للنساء).
(لا ضير في ذلك).
كظمت غيظها وفرت من الحجرة نافرة.
تتردد صديقتها (إلهام) على بيتها ليتباحثان في المحاضرات ويتناولان العشاء، كان (سلطان) يلزم البيت ويخاطبهما في حشرية مستعرضاً رجولته في افتعال ممجوج، استوعبت صديقتها رسالته ومهدت له جسراً برغم الصمت فما حضرت في المرات القادمة إلا ومعها دعوة غواية تفضحها عيونها الفاجرة، فلتذل أنف (زهرة) المغرورة بعلمها، فلو كانت ذكية لعرفت كيف تحتفظ بهذا المجنون.
وطعنة نجلاء أن تخون صديقتها الثقة وتراود زوجها خلسة، الخادمة المغدور بها أفشت السر:
(سيدتي أنتِ مسكينة تثقين بهذه الصديقة وهي تخونك مع زوجك!).
(وكيف عرفتِ؟).
(سمعته يتحدث إليها بالهاتف في وقت غيابك عن البيت أو في الحمام وأعتقد أنهما يلتقيان سراً).
في ذهن شارد رددت:
(أيعقل هذا؟!).
(هو من كان يطاردني وأنا أصده.. صدقيني).
بررت (إلهام) موقفها.
(لكنكِ خنتِ الثقة).
(زوجك رجل مسعور انتبهي له).
صارحته (زهرة) بدوافع مختلفة آخرها الحب والغيرة.
(نعم أخونك مع إلهام وغيرها ومع أتفه النساء لأنكِ لا تستحقين إخلاصي).
(إنك لا تعرف كيف تبرر جرائمك).
(أنا متزوج من امرأة كالثلج، صمّاء كالحجر، ناضبة كالصحراء).
سخرت:
(دعني أحبك، مهّد لي سبل الغواية كي تجتذبني إليك، فمنذ أن تزوجتك وأنا ناقصة لم تشبع فيّ إحساسي كأنثى، لم تحرّك في قلبي وتر اللهفة، انطباعي عنك باهتاً، ضائعاً).
صفعها وشدها من شعرها ورماها على الأرض:
(أنتِ الناقصة، تبررين فشلك وعجزك وتهربين إلى الدراسة والكتب، لم تفهمي طبيعتي كرجل).
همت لتقف بعد أن اتكأت على المنضدة وصرخت في غضب:
(لماذا لا تطور نفسك وتنمي شخصيتك، كم من المرات شجعتك أن تكمل تعليمك؟ فقد كبرت أنا وبقيت في محلك ولهذا صرت تغار مني ومن تفوقي وعلمي).
زمجر بها في حدة:
(هذه شخصيتي وهذا أنا ولا أسمح لكِ بفرض توصياتك عليّ أو إصدار قرارات سخيفة، إن كان يعجبك الحال أهلاً وسهلاً، وإلا فاخرجي من بيتي).
تكبر الفجوة وتدخل (زهرة) في شرنقتها كئيبة، حزينة، فقد تطاول عليها في مرات عدة ضرباً وركلاً وطردها ذات ليل شتوي من بيتها وألقاها بثياب النوم في الشارع، فلا يمكن أن تحطم السد المنيع الذي تكوّم من رواسب السنين، بكت حسرتها، حزنها، أساها، وحدتها المضنية، اتصلت بأبيها فجاءها منقذاً وآواها ليومين ثقيلين تجرعت فيهما مرارة الإهمال والاستنكار فأمها تنهرها بقسوة:
(لزوجك الحق فأنتِ عنيدة، متكبرة بشهادتك، فما نفع هذا العلم وقد حطم زواجك).
(الزوجة لا مكان لها إلا في بيت زوجها).
هكذا تلقيها أمها في أحضان زوج عربيد دون محاولة لرأب الصدع واستكشاف نقاط الخلاف.
جاء سلطان ليصطحبها إلى البيت.
(ومشاعري وإحساسي)). هتفت بصوت مذبوح.
(بيتي يتعذر لكِ) حسمت أمها الموقف أمام سلبية الأب.
وتساق كما الشاة إلى بيت الزوجية حيث جلادها بالانتظار، فلم تبرئ نفسها من الذنب فقد كانت تفكر ملياً في قضيتها وتحاول إصلاح الخلل في ذاتها في ظنها أنها مهملة لاحتياجات زوجها وحاولت أن تنسف هذا الجدار بكل ما أوتيت من قدرة وطاقة، فإنجابها لابنتها الثانية كان حافزاً لتوطيد العلاقة وإصلاحها بيد أنه ينحدر في بهيمية تكشف أبشع طباعه وأرذل خصاله، إذ أخذ يتنصل من مسؤولياته كأب ويمسك عن الإنفاق، يحاول محاصرتها بخندق من نار حتى تنهار، بيد أنها قوية في الشدائد تصارع الأمواج المتلاطمة بصلابة وصبر، رعت البنتين وواظبت على الدراسة حتى تخرجت وتوظفت بينما هو في غيه وعبثه يرتع ويلعب، اتخذ من لهو الدنيا هدفاً لحياته فنفرت منه نفوراً شديداً جعلها تتقيأ كلما قاربها وتكابد كما لو كانت في عملية استشهاد فكل خلية في جسدها تنكمش وكل ذرة في روحها تجفل فقد لفظته لتماديه في فجوره واستخفافه بالمسؤولية، وكان عليها أن تحمي بيتها من شره فهو ما ارتدع عن اقتراف الفاحشة داخل بيتها، هوت نفسها المرهفة في قاع سحيق من الاضطراب والقلق ونهشتها الأحزان حتى ذوت، قد بدد صبرها استهتاره الذي فاق الاحتمال، عاودتها آلام أشبه بوخز في صدرها واختناق ظنت أنه بوادر حتفها فترددت على أطباء الأمراض النفسية تشتكي اضطراب نَفَسها ومرضها الذي نهش أوصالها وتحاول استبقاء حالة الطمأنة من روشتة كل طبيب عاودته، انحلت أواصر الثقة في أي إنسان، خسرت كل شيء، وفقدت كل الناس، اللهم إلا بنتيها كافحت لتحافظ عليهما وتصونهما من غدر الزمن.
فكرت أن تشق لها وسط هذا الظلام نفق نور يخرجها من هذا الضياع، قررت أن تحضّر الماجستير وهي ملازمة بيتها على أن تسافر فقط لإجراء الامتحانات، تركها (سلطان) مهمشة في حياته وألقى على كاهلها عبء الأسرة كاملاً، فاشتدت الكآبة من جديد وكان المخرج الوحيد لأزمتها (الطلاق) فوجودها معه تحت سقف واحد سيقودها إلى الجنون، بان عليها الذبول فلا من روح تشاطرها حزنها وتقتسم معها الهم.
(طلقني فالحياة معك باتت مستحيلة).
(أطلقك كي تذهبين إلى غيري؟!).
(لم أعد أطيقك، صرت أقرف منك، دعني أربي البنتين في ظروف لائقة نفسياً، فالمناخ هنا ملوث، إنك لا تخشى الله ولا ترعى الذمة والضمير، الخادمة سافرت وهي حامل قد راودتها حتى نلت منها وتتهم سائق جارنا، لا أدري كيف تهون عليك كل هذه الجرائم، أريد أن أنقذ نفسي منك لأنك حطمت كل معنى جميل في حياتي).
(لن أطلقك سأذرك معلّقة).
(أتنتقم مني؟).
(افهمي الأمر كما شئتِ).
وتستعين (زهرة) بـ (علماء الدين) لتذليل عقبة طلاقها فمنهم من أصمّ السمع ونصحها بالصبر والتحمل، ومنهم من تجاهل رغبتها وهمّش قضيتها، ثارت ثائرتها فصرخت:
(كيف تطلبون من الميت الصبر، إنه قتلني، حطمني، أدخلني في أزمات نفسية مدمّرة).
وأطرقت أبواب المحاكم ورفعت قضية طلاق بالضرر لكنه تجاهل الأحكام وأعرض عن حضور الجلسات وماطل في النفقة حتى اضطرت إلى مقايضته بمبلغ كبير من المال بعد أن تنازلت له عن حقوقها وابنتيها لينسلخ من حياتها للأبد.
رجعت إلى أهلها بلا زوج وأبناء، استأجرت غرفة صغيرة في الطابق العلوي وقضت شهوراً صعبة تبكي فقد البنتين، تبكي ظلمها، أساها، قسوة الأهل، وجريرة الزوج.
وفي أجواء مشحونة عاشت وسط عيون تتهمها في اليوم ألف مرة فقد ازدرتها أمّها وحرضّت أباها كي يحاسبها في رواحها وغدوها ويزعزع إيمانها بنفسها، خططت بصمت كي تخرج من هذا الجحيم الذي احترقت بسعيره ولظاه، أعدت العدة لتسافر إلى باريس تحضّر الدكتوراه في القانون، جهّزت أوراقها ووثائقها.
(آسفة لم أعد أستطع البقاء فإن أيامي معكم مريرة وساعاتي شقاء).
ودعتهم بقلب كسير عند باب البيت وحملت حقيبتها ذاهبة إلى المطار.
فتحت نافذة (سيارة الأجرة) واستنشقت عبير الربيع لأول مرة وعيناها ترنوان إلى المستقبل بذبالة أمل،فقد حطمت أغلال الزمن وانطلقت إلى الهدف بعزم وإصرار.

ليست هناك تعليقات: